د. عبد السلام دخان
***************
العلاقة بين الإنسان والقراءة ملتبسة، ولا يتطلب النظر إلى هذه العلاقة إنجاز حفر جينالوجي في تاريخها الطويل، لأن النظر – هنا- لا ينصرف إلى تاريخ القراءة وأشكالها، بل إلى العلاقة المخصوصة بين القارئ الحصيف والكتاب البليغ، وإلى فعل القراءة المرتبط بأسئلة واضحة ومربكة مثل: هل يمكننا القراءة بدون تفسير، وأي كتاب نبدأ به فعل القراءة؟ وأي كتاب ينبغي أن يقرأ الآن؟ وهل تؤدي القراءة إلى خلق حوار بين الإنسان وتاريخه وقيمه ومتخيله؟ وهل تحتاج القراءة إلى اعتراف بأهميتها؟ وهل ينبغي تجنب الكتب الغامضة؟
ربما تقودنا هذه الأسئلة إلى خلاصة مفادها أن عديد الكتب تستحق القراءة، وتستحق اهتمام القراء، والادعاء بنهاية القراءة محكوم بالفشل. العلاقة بين القارئ والكتاب معقدة ولايمكن تجاهلها أو حجبها، ولا توجد – في تقديري – مقاربات متقنة وواضحة بشكل كافٍ تمكننا من تجنب سوء فهم العلاقة بين القارئ والكتاب. لذلك يبدو من المستحيل تناول فعل القراءة بمعزل عن الذات المؤولة، لأنها ليست مجرد مهارة تقنية تؤدي إلى إنتاج المعنى، فهي حتما تحتاج إلى رؤى أكثر جذرية لأنها شبيهة بدعوة مارتن هيدغر (Martin Heidegger) في كتابه ” Kant et le problème de la métaphysique” إلى تحمل الآلام من أجل لحظات استرخاء مليئة بسحر العقل.
وإذا كان الوصول إلى الكتاب (الورقي، والرقمي) ليس صعبا، فإن فعل القراءة بالغ الصعوبة لأنه يرتبط بالقدرة على إقامة علاقات بين علامات النص (الكلمات، الأصوات، العلامات النحوية)، وبين محتوى النص المكتوب، بغية تشييد فهم بمعنى النص وفق سياقاته المخصوصة، ذلك أن قراءة كتاب “البصائر والذخائر” للتوحيدي، لا تشبه ما كتب من تآليف القرن الرابع الهجري من كتب السنن والمعاجم، والمستدركات، ونفس الأمر يمكن رصده في كتب من قبيل “أن تقرأ لوليتا في طهران” للكاتبة الإيرانية آذار نفيسي، أو “شرارات كالنجوم” للروائية الأفغانية نادية هاشمي. القراءة حاملة ميراث الأسلاف على نحو شبيه بميراث “عاشور الناجي” في ” ملحمة الحرافيش” لنجيب محفوظ، بيد أن تأثير القراءة لا يرتبط فحسب بخصائص النص(السياق، الاتساق، الانسجام، التناص )، وممكناته الدلالية، ولا ينحصر في تصورات مثل تاريخية النص، علم اجتماع النص، سيميائية النص، مقصدية النص، بل بكيان النص بوصفه نسيجا بالغ الدقة، ولغزا لا يمكن تفكيك” شفراته” بخلاصات جاهزة، أو أحكام قَبْليَة، فالسبيل الوحيد لتحقيق هذه المزية يرتبط بفعل القراءة في أبعادها المختلفة، وعلى نحو خاص بعدها الطوباوي.
القراءة تمنحنا وعيا نقديا نتجاوز به العماء المحيط بنا، و مضادا حيويا يحمينا من “تفاهة” الخطابات السطحية، و ليست القراءة تحفيزاً للدماغ والذاكرة، وفاعلية للأدوار النفسية فقط، لأنها تحررنا من أوهام مجحفة في حق الذات والأثر، وتعيد تشكيل إرادة القارئ وتفكيره، وتخرج المعنى من عباءة الجاهز إلى دوائر التفكير فيما يشبه البعد الشخصي في سموه لدى إيمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas. القراءة تخلصنا من وهم الذات التراجيدية، والتماثل القاتل، لصالح الاختلاف الخلاق، إنها احتفاء بروح المعنى، وتوجه جمالي نحو عوالم متخيلة فسيحة لا تحجبها متاريس الأجلاف.
لا تصبو هذه الرؤية فك الالتباس بين الإنسان وفعل القراءة؛ بقدر سعيها النظر إلى طبيعة العلاقة الملتبسة بين القارئ والكتاب عبر أسئلة حارقة من قبيل ماهي آليات القراءة؟ وهل تستطيع هذه القراءة أن تصل إلى ماهية النص؟
وبمعزل عن قضايا ترتبط بعلم النفس المعرفي، وبأنواع القراءة، و مكانة القارئ في علاقته بالنص، وممكنات التأويل وإنتاج المعنى، فإن فعل القراءة في مجمله، هو السبيل إلى تجنب سوء الفهم.
القراءة تمنحنا الرؤية بدل السراب، الثقة بدل الارتياب، اليقين بدل الشك، المعنى بدل العدم. القراءة أداة لبناء العالم وفهم وتفسيره، وأداة لتشييد المعرفة، وتحقيق مزية تبادل الخبرات والتجارب. مسارات القراءة وتمثيلاتها متعددة، وربما لهذا السبب تشبه القراءة قوس قزح. وأهميتها – في تقديري- ترتبط بطبيعة تجربتها، ونوعها، والإبستيمي الذي تنتمي إليه، الكتابة في شمولية أنساقها تمنحنا الحلم، وتبني جسرا صلبا للعبور نحو الأمل. القراءة ميراث المعنى، معنى الكينونة، وتحققاتها الأنطلوجية. القراءة تمنحنا طواعية طاقتها الاستثنائية وتمكننا من السفر من دون تغيير المكان، أو ضياع الزمان، وتمنحنا في الآن نفسه القدرة على الحركة بحرية في كل الاتجاهات.
طوبى لعشاق القراءة.