ذ. محمد الصيباري
___________________________
قبل حوالي عشر سنوات في اطار تنشيط ورشة حول تقنيات الكتابة الصحفية لمجموعة من النشطاء في المواقع المحلية في القصر الكبير، توقفت على ضرورة الالتزام بالمهنية القصوى حتى في لحظات الحماسة الزائدة التي تفرضها الظرفية النفسية أو شعور العامة وعدم الانسياق وراء أحكام القيمة وتضخيم المصطلحات في غير موضعها.
اثناء النقاش عارض أحد المتدخلين فكرة “الموضوعية” في التعاطي مع الخبر، وتشبث بأن استعمال المفردات الحربية واللغة الشديدة هي ما ستثير اهتمام القارئ وتشكل له فضولا لقراءة المقال، وبالتالي فقد عبر عن رفضه المبدئي لمسألة الموضوعية. لا بأس في اطار تنوع الآراء، لكن المفاجأة بالنسبة لي كانت هي شبه الاجماع داخل القاعة على موقف المتدخل بتبني طرح “صحافة الحماسة” وهو توصيف لا علاقة له بالصحافة الصفراء او صحافة الباباراتزي التي تطورت في اوروبا وتستهدف في العادة فضائح المشاهير وتنبش في خصوصياتهم.
عندها أدركت بما لا يدع مجالا للشك على أن الإعلام مثلما درسناه في معهد الرباط قد ذهب الى غير رجعة، وبأن صفحة جديدة قد فتحت تحت مسميات عدة، بدأت ارهاصاتها مع بعض القنوات الفضائية اواخر التسعينات، وأخذت أسماء جديدة في العشرية الأخيرة. فهي الصحافة المواطنة، وهي الإعلام البديل وبطلها هو الصحفي المواطن يعني أنت وأنت وأنت وأنا بتعبير ناس الغيوان.
في هذا الإعلام الجديد لا مجال للتكوين أو للمعرفة أو الأخلاق. وأما الاستخدام السليم للعقل في تقدير الأبطال الجدد من صحافيين وتقنيين ومتطفلين فهو اختيار اكثر الصور اللغوية والفوتوغرافية سخونة وتشددا وحماسة. والتنافس الكلاسيكي من أجل كسب القارئ الوفي عبر عمق التحليل أو شجاعة الطرح أو القراءة السياسية الشاملة، جعل معيار المشاهد الوفي المعاصر هو الضغط على زر الإعجاب ومشاركة القناة، وأقرب الطريق إلى الفئة المستهدفة هي التغول في الذاتية وصناعة الفرجة واختيار اكثر الأجبان رداءة لاستدراج الفئران الفضولية خلف شاشات الهواتف.
في مأساة الطفل ريان، فك الله كربته، ما يحدث الآن من تهافت فرجوي لهواتف الحاضرين في عين المكان من العامة، أو في مواقع التواصل او عبر منصات المواقع الالكترونية لا يمكن وضعه في أي خانة من الإخبار.
جيش من الحمقى يتكلمون في بث مباشر من هواتفهم او عبر كاميراتهم ولا يهمهم في شيء توجيهات السلطات بالابتعاد عن موقع الانقاذ. هو أقرب إلى “موسم” تسوق وفرجة منه إلى تغطية صحفية.
طفل بريئ يقبع تحت الأرض في انتظار فتحة ضوء تخرجه من جديد وفي صدره جرعة هواء تعيده الى الحياة. هناك من اطعمه وحدد نوع الطعام، هناك من يحدد بدقة منذ ثلاثة أيام أن توقيت اخراجه سوف يستغرق فقط بعض ساعات، هناك أبطال من ورق يتزاحمون للاتقاط الصور بدعوى الرغبة في انقاذه، ومنهم من أحياه وأماته لأكثر من مرة.
بخلاصة لقد جعلوا من مأساة الطفل سلعة لكساد مواقعهم وفساد ضمائرهم، وكتبوا بهواتفهم الغبية نهاية الصحافة التي ظلت تؤجل منذ سنوات. لقد أصبحت الدراما والشعبوية هي السبيل الوحيد لسد رمق العامة la foule التي وصفها فيكتور هيغو بأنها “ليست الشعب. بل إن العامة تخون الشعب”. أما مواقع الشعبوية فهي خطر على الشعب.