بين روعة التكوين وشرف الاستضافة

16 يناير 2022

د . محمد البدوي :

الفصل شتاء والجو بارد نسبيا وعقارب الساعة تشير إلى التاسعة صباحا من يوم الخميس 18 جمادى الأولى 1443 هجرية/24 دجنبر 2021م، إنه موعد ندوة تربوية أعلن عنها السيد المفتش( أحمد العبودي) حفظه الله، قبل عشرة أيام، في موضوع : “كراسة المتعلم ( الدفتر) ـ الخصائص الفنية والوظائف البيداغوجية”، موضوع متميز وجديد ، قلما يلتفت إليه البعض وإن كان جزءا من جوهر العملية التعلمية. اتصلت بالسيد المفتش كعادتي ليلا أستفسر عن صحته وأحواله، وبجرأة لا أستطيع التخلص منها تجاوزت مكالمتي معه ثلاثين دقيقة ، سألته عما بدا لي من غير حصر ولا قصر، وناقشت معه مقاله الأخير المعنون بـ ” هل أتاك حديث مقاطعة المدرسين للزيارات الصفية ،” كما استفسرته عن محاور الندوة المبرمجة ، ولم أنس أن أحدثه عن مجموعتنا المباركة في ” الواتساب ” الأخضر وأسباب ضعف التفاعل فيها…هل الإحجام له علاقة باندفاع البدوي وعناده أم مرد ذلك لمقال السيد المفتش المعنون بـ” طبقات الأساتذة”؟ وطبعا كما علمتم فقد جعلها طبقات متفاوتة ومتباينة …و يا ليته لم يحدد خصائص تلك الطبقات وتركها مبهمة حتى لا يتسرب إلينا وهم أو توجس، غير أني أكاد أجزم أنه يصنفنا نحن أساتذة التربية الإسلامية ضمن الطبقة الأولى ، ماركة ” المبادر الجاد ” .من جهة أخرى لا أخفيكم فقد يكون سبب الإحجام المذكور هو انزواء السباعي و ” انكماشه ” في حدود الإشارة والتذكير بالتاريخ الهجري والميلادي لكل يوم جديد ، ومن حرصه مسكين على هذا الخير فقد يعيد الكرة لا أدري سهوا منه أو لمجرد التذكير. من وراء ستار مسافة مائة كيلومتر يطل كل حين على المجموعة الفقيه عبد المالك؛ من القنيطرة يراقب ويعاين الوضع داخل المجموعة ،أحيانا يجد نفسه مضطرا فيتدخل مساهما بما تعلمه من تكوين أصيل متين وباع في العربية والبلاغة والبيان والبديع ، من سوء حظ السي السباعي أن السي العباسي انتصر للمفتش “هذه” المرة ودحض مزاعم الأستاذ في قضية ألف “خطا ” “وخطى” أهي بالممدودة أم بالمقصورة ، في معركة علمية حامية الوطيس خلف شاشات الهواتف والحواسيب، وحاولت أنا جاهدا حسم المعركة بنتيجة التعادل فلا غالب ولا مغلوب انطلاقا من قاعدة ” ما احتمل واحتمل سقط به الاستدلال ” وفي نفسي شيء من حتى ، غير أن العباسي حاصرني وسد علي الطريق معلنا فوز صاحبي المدقق اللغوي الأديب الألمعي سيدي أحمد مستعينا هو الآخر بقاعدة ” ما احتمل معنيين فهو في أحدهما أظهر” حقا ! كانت مقتطفا من مناظرة علمية رفيعة المستوى لم تمنع الأستاذ السباعي من إبداء وجهة نظره معززا رأيه بأدلة قوية ومقنعة، ولم تمنع السيد المفتش المحترم رغم مكانته المعنوية والاعتبارية من مصادرة حق المخالف أو فرض رأيه بالقوة ،فهذا يستدل بالبخاري ومسلم وهذا بمالك والنسائي وابن ماجة ومالك ونحن خلف شاشاتنا نعيش نشوة العلم وتدافع العرفان والبرهان والبيان .أنهيت مكالمتي بالشكر الجزيل للسيد المفتش على صبره وتحمله الكبير لشغب البدوي .الوقت متأخر آويت إلى فراشي وأنا أفكر في هذه الندوة والحقيقة الصريحة أنني اشتقت لإخواني وأخواتي أساتذة المادة لذلك أعتبر الندوة وسيلة لصلة الرحم بهم. لقد كان آخر لقائي بأكثرهم زمن تصحيح امتحانات الباكالوريا فربما بعدت الشقة بيننا بسبب العطلة الصيفية.
صبيحة هذا اليوم توجهت صوب الثانوية مكان احتضان الندوة، وفي الطريق خطر لي خاطر فقلت في نفسي : هل أتصل به ( أعني المفتش) ونأتي سويا ؟.وكنت أفضل ذلك لكن الوقت تأخر بقيت فقط عشر دقائق عن موعد انطلاق أشغال الندوة و هو أحرص على ضبط الوقت ،لذلك أسرعت ودخلت المؤسسة .وقعت عيناي على سيارته الزرقاء زرقة السماء ، أو قل لون البحر وما يكتنزه من أسرار وخيرات ،سيارة ألمانية الصنع ،تحفة قديمة بقدم السنوات التي قضاها في التفتيش والتأطير ، سيارة الملوك والعظماء باعتبار مهامها ووظائفها. توجهت فورا صوب القاعة وعلى غفلة من امري التقيت به فجأة بقبعته السوداء المتميزة ومعطفه الرمادي الأنيق وحذائه الأسود شديد اللمعان .كان يتأبط حاسوبا محمولا وهو يسرع الخطى تحت زخات مطر خفيفة كانت على موعد معه بمجرد أن وصل المؤسسة .بادرته : مهلا سيدي فمعي مظلة تقينا معا قطرات المطر ،انتظر حتى نصل سويا لقاعة ابن رشد فندخل دخول الملوك أو الفاتحين، فأنت صاحب الندوة والفارس بلا منازع. بجانبي كان القنديل الأسمر ( زميلي وأخي في تدريس مادة التربية الإسلامية) يؤازرني وبنبرته المعهودة التي لا تعرف المزاح قال : مكانة المفتش في قلوبنا وتستوجب منا أن نفرش له السجاد الأحمر حتى يدخل القاعة.
القاعة في لمساتها الأخيرة ورئيس المؤسسة يسهر شخصيا على هذه اللمسات. هل هذا هو دأبه وصنيعه مع الكل أم هو سلوك متميز مع قيدوم المفتشين وإمام المؤطرين؟؟ .ما أن استوى على مكتبه حتى وقع بصري على أستاذين في أيديهما مناديل يمسحان مكتب السيد المفتش ،أيقنت أنها محبة مفتش ترك بصمته في قلوب أساتذة ، يحبنا ونحبه ، نفرح بلقائه ويفرح بلقائنا، لقد أصبحنا جزءا من كيانه وليس لي أدنى شك في هذه المشاعر .ولافتتاح الندوة طلب كعادته وهو المحب للقرآن الكريم أن تتلى تلاوة عطرة من الذكر الحكيم، بنباهته لم يرشح أحدا لهذا الأمر ، وفي نفسي أن هذا الشرف لا يناله إلا صاحبي السباعي جريا على العادة. من حظي السعيد أنه كان يجلس عن يميني. أبدى ممانعة طفيفة لكنه لان وقبل العرض الترتيلي. هو بالفعل طاقة صوتية وكفاءة ترتيلية ؛ صوت جميل ندي طروب يسحرك وخاصة وهو يجيد اختيار الآيات ، ينتقيها بعناية فائقة وبحسب السياق . “رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار…” هذا الأستاذ جمع بين جمالين إثنين ، جمال صوت آسر وجمال خط أنيق. يفرض عليك حبه وإن اختلفت معه. وإني أشهد هذه السطور المتواضعة أنني أوقره وأقدره وأكن له الاحترام .
استهل المفتش كلامه بجملة فيها ما فيها إذ قال : ” بعض الأساتذة قدموا اعتذارا وبعضهم اكتفى بالإخبار” . ومن نبرة صوته وملامح وجهه يظهر أن هذا الأمر لا يروقه أو لا يريحه علما أنه لا يكترث بالجانب الإداري ولا تهمه إجراءاته. وفي كل الأحوال لربما هي رسالة في كون المسألة تحتاج للانضباط الذاتي والمسؤولية الفردية. بعد هذا التوجيه قسم الموضوع إلى شقين جانب نظري جعله في عشر نقط مركزة ومحورية، وجانب تطبيقي عملي يقتضي تشكيل ورشتين إثنتين من خلالهما نناقش ما جاء في الشق النظري… وقف المفتش منتصبا وقتا طويلا ،لربما للوقوف تأثيره الخاص أكثر من الجلوس. كان قد عين من يقرأ (يسرد) كعادة علماء القرويين فكان أمامه مباشرة زميلي العدنان الأنيق الأستاذ الألمعي اللبيب صاحب اللسان الفصيح والخط المليح والطلعة المشرقة وبعدها طفق المفتش يشرح ويستطرد ويضرب الأمثلة ويستدل ويربط بالواقع، يخيل إليك وأنت تتابعه أنه سبق أن أنجز هذه الندوة؛ يحلق بك في سماء العلم والمعرفة النظرية وينزل بك إلى الأرض بالنقل الديداكتيكي كما يسميه هو وبالأمثلة التوضيحية من ممارساتنا، خبرة وتجربة ما يقارب الأربعة عقود بين التدريس والتفتيش والعمل الجمعوي و التربوي والحزبي والتدبيري الجماعي…تجربة خصبة راكمت كثيرا من مظاهر الإحسان والإتقان .وأثناء هذا العرض المتميز كان يلفنا صمت وكأن فوق رؤوسنا الطير ، الكل متوجه صوب المفتش كأننا في صلاة نستمد الواردات من خالق الأرض والسماوات . ولكي أكون منصفا كانت وحدها سيدة التربية الإسلامية بلا منازع لالة فاطمة تتحرك كملكة النحل ، حركات خفيفة تختلسها اختلاسا كي لا تثير أي انتباه . أيقنت أنها أخذت الإذن من صاحب الندوة ، منشغلة مع طاقم من صويحباتها وهي تشير عليهن وتوجههن كأنها أميرة قوم منشغلون بشأن كبير وبما هيأته وأعدته لنا، المشهد يحيل على حفل تتويج رفيع المستوى. والحقيقة التي لا تخفى أن لقاءاتنا التربوية نافعة لا محالة ولكنها أيضا رائعة وماتعة بفعل ما تعده الأستاذة فاطمة من صنوف الحلويات والمشروبات…السيدة فاطمة منشغلة بما ستقدمه من أطباق الحلويات وأشكالها المتميزة. والعجيب أنها ما تلبث أن تأتي تتابع الندوة من الصف الأمامي بل أحيانا تتدخل موجهة مقترحة على المفتش ومكملة له بعض الكلمات. في قضية الحفل والكرم لا تقبل السيدة فاطمة من ينازعها في إعداد Pause café ، ترد محاولات السادة الأساتذة وتصر إصرارا أن تحظى بهذا الشرف وحدها وتقول بتواضع الكرماء ” ما شي شي حاجة ” يعني هذا أمر هين . في لحظات الاستمتاع بالراحة المشفوعة بشرب الشاي وأكل الحلويات همس المفتش في أذني اليسرى : ” الأستاذة فاطمة تبالغ في إكرامنا، إكراما قروشيا قل نظيره ،أكيد أن تحضير هذه المائدة الممتدة بضعة أمتار تطلب منها جهدا ووقتا ومالا ،في الحقيقة حين أريد أن أشكرها تضيع مني العبارة فلا أكاد أبين ، فأرجع خاوي الوفاض، وأكتفي بالدعاء لها سرا ” ، فأرد عليه مازحا يا ليت صاحبك الفقيه الشريف العسري كان معنا فيطيل في الدعاء لها.
الموائد جاهزة والفوائد غزيرة ، ننتظر السيد المفتش ليفتتح حفلنا البهيج هذا، بينما هو هناك في إحدى زوايا القاعة يناقش أو يوضح لأستاذ قضية ما على هامش الندوة. لفطنة الأستاذة فاطمة ووعيها الصحي بحكم أنها زوجة طبيب ممارس ألغت أنواع العصير لأن الجو بارد وجعلت من الشاي الدافئ المشروب الوحيد ، ومن حسن حظ المفتش فهو يحب الشاي ومن أنصاره والداعين إليه بل و المتعصبين لشربه ، ولا يجد غضاضة في ذلك .
اخترت الجلوس بقربه دون أن يعي بذلك، ظن انها محض صدفة لذلك التفت إلي مبتسما مازحا : البدوي ما بالك دوما بقربي تحصي حركاتي وسكناتي ؟؟ . واقع الأمر كان الكل منشغلا حيث خفتت الأصوات وقل الكلام فلا تسمع إلا خرير الشاي ينسكب في كؤوس غاية في النظافة والأناقة ،إنها من البيت العامر للسيدة فاطمة .أمام هذه الخيرات والفيوضات فضلت ألا أتناول فطوري في بيتي استعدادا لهذا الكرم الحاتمي الفيَاض ؛ إفطار فاخر من صنف cinq etoiles خمسة نجوم ، فأنت تحتار وتتردد بين ما تقدمه وما تؤخر. أتجرأ كعادتي وأنا “بدوي” فأشكرها جهارا أصالة عني ونيابة عن إخواني وأخواتي أصحاب الفضيلة مدرسي مادة التربية الإسلامية. كلما يممت وجهي صوبها ألفيتها فرحة مبتهجة مسرورة تصدر التعليمات وتحث الأساتذة على الاستزادة من الحلويات مرحبة بهم وتسهر على خدمتهم لا تكاد تجلس. كان اختيار المفتش لقاعة ابن رشد موفقا ، إنها قاعة بسعة كرم الأستاذة فاطمة وبجمال روحها المتوهجة ونبل مبادراتها القيمة، ومعلوم أن هذه القاعة لها في قلب المفتش مكانة خاصة نراه يرتاح فيها ولا يرتاح فيما سواها، وربما السر يكمن في أن القاعة شيدت على مرأى منه وتحت إشرافه صحبة زملائه يوم كان نائب رئيس جمعية آباء واولياء هذه الثانوية حيث شيدت الجمعية هذا الصرح التربوي الثقافي، فضلا عن ذلك درس المفتش بهذه الثانوية مرحلتي الإعدادي والثانوي .
وهم عائدون إلى حيث كانوا يتابعون الندوة شرعوا يدعون فرادى مع السيدة فاطمة وهي ترد عليهم مبتسمة ابتسامة ترحيب بلهجتها القصرية المحلية : ” بصحتكم مخسارنا عليكم حتى شي حاجة. الله يا ودي تستهلوا كثار”، أجد نفسي عاجزا في نقل معاني هذه العبارات الدارجة الرائعة التي يزخر بها هذا الرد الفاطمي: ” تستحقون كل خير ، لا كلفة في الإكرام ،أنتم ذوو الفضل الأسبق”.

 

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading