” الخليل القدميري
في فترة من القرن الماضي، حين كانت مدينة صغيرة غارقة في أحلام ماضيها، مثلما كانت جل معالمها التاريخية مغمورة تحت مياه فيضانات نهرها الأبدي، ظهر حكواتي يتأبط كيساً من خيش، به آلة وتريّة ودف صغير الحجم، يستعين بهما على ضبط إيقاع حكايات، يستقيها من مشاهداته اليومية، و يسردها على مسامع معجبيه، ومن يحتشدون حوله في حلقة تجري أطوارها، بعد العصر، في إحدى ساحات المدينة.
تحول هذا الكائن الموهوب، مع مرور الأيام، إلى شخصية مألوفة في المدينة والمدن والبوادي المجاورة، وغدت حلقته فضاءً للفرجة، ينتقل معه حيثما حل وارتحل، من محطة القطار والحافلات إلى المقاهي والمنازل والمحال التجارية، ليستمتع الناس بما يقدمه لهم، في قالب هزلي، من مواضيع اجتماعية على علاقة بصميم معيشهم اليومي.
وحين أقدم على مغامرة الهجرة إلى خارج الوطن، انفتح أمامه مجال واسع، لعرض مواهبه في فضاء أرحب، لكنه سرعان ما قفل عائداً إلى وكره، متعللاً بأنه ” وجد المال والجمال في أوروبا، ولكنه، مع ذلك، افتقد الدفء والحنان الذي يغمره بهما أهله في بلده”.
عاد الحكواتي إلى حلقة افتقدته طيلة مدة غيابه، بلباسه المعهود وطاقيته الحمراء المائلة إلى جنبه الأيمن، وبجعبته قصص وحكايات استقاها من معين مشاهداته، ومن معاينة أحوال بني جلدته في الديار الأوروبية، مجسداً، في مواقف هزلية، مصاعب واجهته لاستيعاب عوائد أهلها، لجهله بلغة سيرفانتيس وموليير وشكسبير وجوته…
إلى جانب الولع بالحلقة، عشقَ الحكواتي كرة القدم وأدمن على مصاحبة فريق المدينة في رحلاته بالقطار أو الحافلة، وكان حضوره لافتاً في مدرجات الملاعب، حيث كان يمزج بين التشخيص والغناء والفكاهة، ويُسخّر حسّه التهكمي لتسليط الضوء على ظواهر اجتماعية متفشية بين الناس كالظلم والجشع والغش والبخل والعقوق والكسل…
ومن طُرفه التي ذاع صيتُها، واقعة خروجه عن طوره، عند مشاركته كلاعب في إحدى مباريات دوري الأحياء لكرة القدم. فإثر إعلان الحكم عن ضربة جزاء لصالح فريقه، تقدم لتنفيذها لاعب من أبناء أعيان المدينة، فأمسك الحكواتي الكرة ، وصرخ مستنكراً:
“من غير المعقول أن يسند تنفيذ ضربات الجزاء دائما إلى أبناء الأغنياء بينما يحرم من تسديدها أبناء الفقراء”.
وحين نفذ الحكواتي ضربة الجزاء، سدد الكرة إلى خارج المرمي، بينما تطاير حذاؤه المطاطي إلى داخلها، تحت تصفيقات لاعبي الفريقين وهتافات الجمهور.
الرباط 16 أكتوبر 2021