المعطي سيون أسيدون.. أيقونة النضال الحقوقي والدفاع عن الشعب الفلسطيني

13 نوفمبر 2025


– الدكتور محمد البدوي

كانت تلك الندوة، وتلك المداخلة التي لم تتجاوز النصف ساعة في تلك الأمسية التضامنية مع القضية الفلسطينية، كافية وحدها لتجعل عندي من الرجل أيقونة النضال الحقوقي في هذا الوطن، بعيدًا عن العصبية والمرجعية والحزبية والانتماء.

أدركت يومها، وأنا أتفحص أسارير وجهه، وحركات عينيه، وطريقة كلامه قبل مضامين خطابه، أنه يوجه وينتقد ويحذر من مغبّة السقوط الفجّ المدوّي في قعر جحيم التطبيع، بأسلوبه السلس السهل البسيط الذي يجد منفذًا إلى القلوب ويفهمه الجميع.
وكأنّي به يتجوّل في بعض كبريات أسواق التمور بالعاصمة البيضاء، يحذر تجّار الجملة والتقسيط من شراء تلك المنتجات المستجلبة من إسرائيل.

كان ذلك اليوم بالنسبة لي يومًا استثنائيًا، وأنا الذي تربّيت وتشربت معاداة الصهيونية، يومًا مفصليًا في حياتي لتقييم الإنسان بعيدًا عن المرجعية والتعصّب. كنت بالكاد أقبل نظريًا أن هناك يهودًا يحاربون الصهيونية ويعتبرونها خطرًا وسرطانًا يأكل الأخضر واليابس.

قلت في نفسي: هذا الرجل يحقّ للمغاربة أن يحتفلوا به، وأن يجعلوا منه مدرسة في الاختلاف والمشترك الإنساني. وصدق الإمام علي رضي الله عنه حين قال: “الناس صنفان: أخ لك في الدين، ونظير لك في الخلق.”

زاد نهمي في تلك الأمسية، وأنا المعجب بالسير الذاتية، أن أفتح لنفسي نافذة للتعرّف أكثر على هذا الرجل، فألفيته ينخرط في كل الأشكال النضالية المناهضة للكيان الصهيوني وللتطبيع معه، سواء عبر الجبهة الداعمة لفلسطين أو من خلال كونه المنسق لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات في المغرب (BDS).

بدأت الصور تتوالى أمامي وأنا أجري بعض المقارنات مع من ينتسبون إلى مؤسسة العلماء، ورؤساء المجالس العلمية، وبعض الكتّاب والأدباء وأصحاب الفكر… وكان يومها قد مرّ على “طوفان الأقصى” عام وأربعة أشهر، ولم نسمع لهم همسًا؛ تحسبهم خشبًا مسندة، بل أحيانًا تكون صيحاتهم علينا لا لنا.
سكتوا دهرًا، فلما نطقوا قالوا كفرًا!
ولك أن تعجب أن يُقام قدّاس للصهاينة في الصويرة، ويكون ضمن المدعوين رئيس المجلس العلمي! وحتى أزيدك من الشعر بيتًا أو بيتين، أو من الشعير رِطلاً إن شئت أو رطلين، يتضرّعون في ترانيمهم الممسوخة بالدعاء للجيش الإسرائيلي!

وأنا أنصت بإمعان شديد للمناضل الشهم الصادق، الذي دفع ضريبة كلمة الحق والوقوف في وجه الاستبداد عقدًا من الزمن في أقبية السجن والتعذيب، وهو يجيب عن سؤال كان فيه حرج، والقول فيه خطير، بعد أن انتقد أحد المتدخلين تلك العملية الاستشهادية النوعية التي نفذها البطل المغربي الشاب، وذهب ضحيتها مدنيون — في قاموسهم.

وأحسب أن الأستاذ عبد الصمد فتحي، وهو نجم النضال الميداني ورئيس الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة، والذي زاد الندوة بريقًا، كان يريد أن يجيب عن السؤال، لكنه فرح في نفسه قائلًا: “ياليت الجواب يكون من صاحبه.”

وفي لحظة ساد فيها الصمت التام بالقاعة الممتلئة عن آخرها بالحضور النوعي المميز، وكان صاحبنا — رغم كونه الأكبر سنًا والأكثر تأثيرًا — يتوارى إلى الخلف قريبًا من الجمهور كأنه ليس صاحب المداخلة، طالبًا من المسير أن يختم به.
ابتسامته المعهودة لا تفارقه.

ثم أجاب عن السائل كمن يقتل الأفعى في الضربة الأولى:

“كل من هم في فلسطين المحتلة في حكم المحتلّ الغاصب، انتهى الكلام.”

قلت في نفسي: رُفعت الأقلام وجفّت الصحف.

في تلك اللحظات، حملتني ذاكرتي العنيدة وبدأت تصبّ عليّ وابلًا من الصور والأسماء التي كنت انخدعت بها ردحًا من الزمن. بدأت أُلقي من ذاكرتي صورًا لشخصيات تنتسب إلى القرويين ودار الحديث الحسنية، كنت أفاخر الزملاء بالانتساب إليهم والتتلمذ على أيديهم، لكن للأسف سقطوا عندي في أول امتحان.
وصدق من قال: غزة كاشفة، غزة فاضحة، كشفت وعرّت وفضحت وأزالت الأقنعة.

واليوم، وبعد أقل من أسبوع على وداع أيقونة النضال المعطي سيون أسيدون، كلما فتحت جوالي دمعت عيناي وأنا أتصفح العشرات، بل المئات، إن لم أقل الآلاف من المواقع والصفحات داخل الوطن وخارجه؛ الكل يُجمع على أن المغرب فقد أحد أعظم رجالاته ورموزه الكبار الذين صنعوا التاريخ، غير مبالين هل سيخلدهم أم لا.

وأحسن الدكتور عبد الجباري صنعا حين علّق على صورة من مشهد جنازة الراحل قائلاً:

“لو كنا نتقن بناء الحضارة وصناعة الإنسان بقيم الإسلام العالمية بما فيها من تسامح وتعايش ورحمة ولين، لالتقطت الحكومة تلك الصورة وضمنتها الكتب المدرسية لتكون شاهدة على وعيٍ مغربي استثنائي، وعلى إسلامٍ محمديٍّ أصيل، وعلى روح المواطنة والعيش المشترك.”

تركتُ الفقه المنحبس الذي يأوي إلى مكانٍ سحيقٍ في باطن الأرض، لا يخرج إلى الواقع إلا عندما يسمع بتشييع الإعلامية الشهيدة شيرين أبو عاقلة أو تشييع جثمان الشهيد البطل والمناضل الحقوقي المعطي سيون أسيدون.

وغسلت يديّ — بل وحتى رجليّ — من تلك الفتاوى والفروع، سبعًا، إحداها بترابٍ بقي عالقًا بأحذية أمثال هؤلاء الرجال الذين تشرفتُ بمعرفتهم.
وألهمني الله عز وجل أن أجعل لهم من قلمي نصيبًا.

وختامًا، روى الإمام عبد الرزاق في المصنف في كتاب “أهل الكتاب”، باب “اتباع المسلم جنازة الكافر”، وابن أبي شيبة في المصنف في كتاب “الجنائز”، في باب “في الرجل يموت له القرابة المشرك، أَيَحضُرُه أم لا؟”، عن الشعبي قال:

“ماتت أم الحارث بن أبي ربيعة، وكانت نصرانية، فشيعها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.”
وكان عطاء يقول:
“إن كانت قرابة قريبة بين مسلم وكافر فليتبع جنازته.”

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading