
بقلم : ذ. محمد الشدادي
……..
أثارت المذكرة الوزارية الأخيرة، التي تلزم الأطر التربوية بارتداء الوزرة داخل المؤسسات التعليمية، نقاشا واسعا بين الفاعلين التربويين حول فلسفة الهندام المهني، وحدود السلطة الإدارية في فرضه، ومدى ارتباطه بالرسالة التربوية. وبين من اعتبرها خطوة نحو ترسيخ الانضباط، ومن رأى فيها إجراء شكليا لا يراعي واقع الأستاذ،
وجدت نفسي أسترجع تجارب عشتها داخل مؤسسات تعليمية، تبين أن الهندام ليس مجرد لباس، بل هو موقف تربوي، ورسالة صامتة تعلم قبل أن تقال.
- .تجربة المدير محمد العمري: القدوة تبدأ من الباب.
في بداية التسعينيات، بالثانوية المحمدية، كان المدير السيد العمري يجسد نموذجا فريدا في الانضباط والهيبة التربوية. لم يكن فقط صارما في مراقبة هندام التلاميذ والأساتذة، بل كان هو نفسه غاية في الأناقة، دائما ما يرى مرتديا بدلة أنيقة وربطة عنق ومعطفا، مما يضفي عليه حضورا محترما ومهيبا يلهم الجميع بالانضباط. كان يقف كل صباح ومساء عند باب المؤسسة، يراقب هندام مرتاديها بدقة، حرصا على احترام الفضاء التربوي.
وفي إحدى الأيام، حضرت أستاذة جديدة في سنتها الأولى من التعيين، ترتدي لباسا لا يليق بالمؤسسة التعليمية. فلما همت بالدخول، أوقفها المدير وطلب منها العودة لتغيير ملابسها. ظنت أنه لم يتعرف عليها كأستاذة، فقالت له: “أنا لست تلميذة، بل أستاذة”.
فرد عليها بهدوء وحزم: “أنت أولى سيدتي، عليك أن تلتزمي بلباس لائق، لكونك قدوة للتلميذات والتلاميذ”.
ذلك الموقف يجسد فلسفة الهندام المهني: أن القدوة لا تعلم بالكلام، بل تمارس بالموقف، وأن احترام المؤسسة يبدأ من احترام مظهر من فيها.
كان المدير العمري أول من يحضر صباح وآخر من يغادر مساء، لا يغيب إلا نادرا. حضوره لم يكن شكليا، بل وقائيا، يسهم في ترسيخ الانضباط ومنع التسيب. مجرد وجوده في الساحة أو عند الباب كان كافيا لردع كثير من السلوكيات غير اللائقة، ولغرس شعور بالاحترام في نفوس التلاميذ والأساتذة على حد سواء. لقد كان حضوره اليومي بمثابة صمام أمان تربوي، يحافظ على هيبة المدرسة ويرسخ قيمها في سلوك الجميع. -
قصة التلميذ والسترة العسكرية:
في أحد الأيام، دخل تلميذ المؤسسة وهو يرتدي سترة عسكرية تشبه زي الثكنات. لم يكن المدير العمري حاضرا عند الباب، لكن الحارس “با اعبيدة”، لاحظ الأمر، فتتبع التلميذ ليعرف قسمه. وبعد لحظات، توجه المدير بنفسه إلى القسم حيث كان التلميذ يستعد لحصة الرياضيات مع الأستاذ الفرنسي ” Chappel” . وقبل أن تبدأ الحصة، طلب من التلميذ أن يغادر لتغيير سترته، قائلا له بصرامة تربوية: “هذه ثانوية وليست ثكنة عسكرية”. حاول الأستاذ التدخل، موضحا أن التلميذ من المتفوقين، والتمس منه أن يسمح له بحضور الحصة، فاستجاب المدير بشرط أن لا يرتدي تلك السترة مجددا. وقد التزم التلميذ بذلك، ربما لأن طموحه كان الالتحاق بإحدى المدارس العسكرية، لكن المدير لم يتنازل عن مبدئه: أن المؤسسة التعليمية لها حرمتها، وأن المظهر جزء من رسالتها التربوية. -
با اعبيدة: الحارس الذي كان تربويا بطريقته:
كان “با اعبيدة” شخصية فريدة. بملامح صارمة وقلب طيب، يحمل في خطواته هدوءا يخفي يقظة دائمة. لم يكن مجرد حارس باب، بل عينا تربوية تراقب وتنبه، دون أن يرفع صوته أو يثير ضجة. يعرف أسماء التلاميذ، أقسامهم، وحتى سلوكهم، ويلاحظ أدق التفاصيل في هندامهم أو تصرفاتهم. كان الجميع يحترمه ويقدره، لأنه كان جزءا من روح المؤسسة، يشعرنا بالأمان، ويذكرنا بأن المدرسة ليست فقط مكانا للتعلم، بل فضاء للانضباط والاحترام، يبدأ من أول خطوة نخطوها داخلها. -
تجربة أخرى: حين يغيب المدير، تحضر الفوضى.
في مؤسسة أخرى، عشت تجربة مختلفة تماما. كان المدير آخر من يأتي صباحا، وأول من يغادر، وغالبا ما يغيب. ذلك الغياب الإداري ترك فراغا واضحا في الضبط التربوي، وفتح الباب أمام التسيب. أذكر أن إحدى الأستاذات كانت تأتي بلباس أقرب إلى لباس النوم، ومع ذلك كان المدير يستقبلها بابتسامة، دون أي توجيه. بعض الأساتذة كانوا يرتدون سراويل ممزقة أو ألبسة لا تليق بالمقام التربوي. هذا التهاون جعل التلاميذ يفسرون تلك المظاهر تفسيرا خاطئا، وكم من تلميذ انزلق لفظيا أو سلوكيا بسبب لباس غير محتشم، فكان هو الضحية في النهاية.
ولعل من أسباب هذا التسيب في بعض المؤسسات، أن بعض المديرين لا يرون في الإدارة مسؤولية تربوية، بل فرصة للراحة وتغيير روتين القسم. يتعاملون مع المنصب كامتياز وظيفي، لا كرسالة قيادية، فيغيبون عن المؤسسة، أو يحضرون دون أثر يذكر، حضورهم وغيابهم سيان، يتناسون أن المدير هو القائد التربوي الأول، وأنه إذا صلح، صلحت المؤسسة، وإذا فسد، عم الفساد في محيطها، وفي ساحتها، وفي أقسامها، وفي كافة مرافقها. فالقائد حين يغيب، يغيب الانضباط، وتضعف الهيبة، وتختل العلاقة بين التلاميذ والأساتذة، وتتحول المدرسة إلى فضاء بلا روح ولا مرجعية.
- المذكرة الوزارية: بين الانضباط والإطار القانوني.
وقد جاءت المذكرة الوزارية الأخيرة التي تلزم الأطر التربوية بارتداء الوزرة داخل المؤسسات التعليمية، لتعيد فتح النقاش حول فلسفة الهندام المهني، وحدود السلطة الإدارية في فرضه، ومدى ارتباطه بالرسالة التربوية. لكنها أيضا، وبمنظور تنظيمي، تعد بمثابة إطار قانوني يعتمد عليه من طرف مديري المؤسسات لتطبيق مقتضيات النظام الداخلي، وعلى رأسها احترام الهندام المهني. فهي تمنح الإدارة سندا رسميا للتدخل، وتحرج من يتهاونون في أداء مهامهم، ممن يظنون أن القانون لا يلزمهم بالظهور بمظهر لائق. فالهندام لم يعد خيارا شخصيا، بل التزاما مؤسساتيا، يعبر عن الانتماء والاحترام، ويرسخ صورة المدرسة كمرفق عمومي له رمزيته وهيبته.
ومهما قيل عن هذه المذكرة، التي لم ترفق بتحفيزات أو دعم مادي للأساتذة، فإن الواقع يثبت أن غالبية الأساتذة ملتزمون فعليا بالهندام المهني، ويرتدون الوزرة أو لباسا لائقا بكل احترام، ويضيفونها إلى باقي اللوازم التي يقتنونها من مالهم الخاص: من أدوات بيداغوجية، ووسائل تعليمية، وحتى تجهيزات الفصل. هذا الالتزام الصامت يعبر عن وعي تربوي عميق، وعن انتماء حقيقي للمهنة، رغم غياب التحفيزات أو الاعتراف المادي.
- مربط الفرس: الأستاذ قدوة في مظهره قبل كلامه
بل إن بعض مظاهر اللباس غير اللائق أو غير المحتشم، التي قد يرتديها بعض الأساتذة أو الأستاذات، تربك العلاقة التعليمية بشكل مباشر. حين يأتي الأستاذ وكأنه يعرض الأزياء، أو ترتدي الأستاذة لباسا مثيرا لا يراعي السياق التربوي، فإن التلميذ، بدل أن ينشغل بالاجتهاد ومتابعة الدرس، ينصرف ذهنه إلى أمور أخرى لا علاقة لها بالتحصيل. خاصة في سن المراهقة، حيث يكون التلميذ سريع التأثر بالمظهر، ويفسر بعض الإشارات تفسيرا خاطئا، مما يعرضه للانزلاق السلوكي أو اللفظي، ويربك تركيزه داخل الفصل. -
خاتمة: من الشكل إلى الجوهر.
الهندام المهني ليس مجرد لباس يرتدى، بل هو رسالة صامتة تعلم قبل أن تقال، وهو تعبير عن احترام الذات والمكان والمهمة التربوية. الأستاذ قدوة، ليس فقط بما يدرس، بل بما يجسد من قيم في سلوكه ومظهره. فكم من تلميذ تأثر بأستاذه لأنه رآه أنيقا، محترما، متزنا، قبل أن يسمع منه أول درس. وكم من تلميذ فقد احترامه لمؤسسته حين رأى من يعلمه يتهاون في مظهره، أو يرسل رسائل غير تربوية من خلال لباسه.
لسان الحال، كما يقال، خير من لسان المقال. فالأستاذ حين يرتدي وزرته أو لباسا مهنيا محتشما، لا يمارس شكلا إداريا، بل يقدم درسا في الانضباط والاحترام، ويرسخ في ذهن المتعلم أن المدرسة فضاء للجد، لا للعرض، وأن المعرفة تبدأ من الهيبة، وتنمو في بيئة تقدر الرسالة وتحترم فيها الرموز.
وإذا كانت المؤسسة التعليمية هي مرآة المجتمع، فإن المدير هو مرآة المؤسسة. فصلاحه ينير أركانها، وفساده يطفئ وهجها. وإن كان الهندام المهني هو أول ما يرى، فإن القيادة التربوية هي أول ما يحس. فلتكن الوزرة عنوانا للانتماء، ولتكن الإدارة عنوانا للقدوة، ولتكن المدرسة فضاء يعلم بالقول، ويربي بالفعل، ويبهر بالمظهر، ويثمر بالمضمون.
وإذا كانت المذكرة الوزارية قد أعادت فتح النقاش حول الهندام، فإنها أيضا وضعت حجر الأساس لإطار قانوني يمكن الإدارة من فرض احترام النظام الداخلي، ويحرج من يتهاونون في أداء واجبهم المهني. فالهندام لم يعد خيارا شخصيا، بل التزاما مؤسساتيا، يعبر عن الانتماء والاحترام، ويرسخ صورة المدرسة كمرفق عمومي له رمزيته وهيبته.
إن إصلاح المدرسة لا يبدأ من المناهج وحدها، بل من التفاصيل التي تبدو صغيرة، لكنها تشكل جوهر العلاقة التربوية. والهندام المهني، في هذا السياق، ليس مجرد قماش يرتدى، بل هو توقيع تربوي يومي، يعبر عن من نحن، وما نريد أن نعلم.