
_ الأستاذ : ادريس حيدر .
في ذلك اليوم ، شعرتُ بقلق ينتابني ، لا أدري هل مبعثه الحرارة المفرطة التي تُحوِّلني إلى شخص منهار من شدة التعب ، لا أطيق فيها نفسي ، أم أن الأمر يتعلق برتابة و روتين ثقيل على روحي و وجداني .
حاولتُ أن أخفف على حالتي النفسية المتدهورة ، و ذلك بالبحث عن ملاذ ، أجد فيه بعض الرطوبة لعل جسدي ينتعش .
انزويتُ في ركن بإحدى المقاهي مصحوبا برائعة الأديب الروسي :” فيودور دويستويفسكي” ، هادفا من وراء ذلك الترويح عن نفسي ، و إطلاق عنان خيالي يهبم و يسبح ، لعلي أجد بعض الهدوء و الطمأنينة .
إلا أنه و بمجرد تصفحي للصفحات الأولى ، حتى انتصب أمامي أحد معارفي القديمة ، و جلس بجواري دون استئذان ، و بدأ يحدثني عن وقائع من الماضي المشترك و التي لم أعد أتذكرها ، و عن أشخاص نسيتهم .
و فجأة أخرج سيجارة من النوع الرديء، و كان كلما أخذ نفسا منها ، إلا و نفث دخانها على وجهي ، بحيث بدأتُ أشعر بالاختناق خاصة و أن رائحته كان تمتزج برائحة نَفَسِهِ الكريهة .
كان يتكلم بدون توقف ، و بالمقابل لم أكن أسمع لما يقول ، بل و لم أكن أفهم مضامين حديثه .
و عَبَّرتُ عن امتعاضي بطرق ملتوية ، تارة بتغيير ملامح وجهي بشكل يوحي بعدم ارتياحي ، و أخرى أبدو له شاردا ، لا أسمع له ، لكي يفهم أنني غير مستعد للتفاعل معه .
سكت لحظة قصيرة ، ربما كان يُفكر في القرار الذي سيتخذه ، إما بالانسحاب أو بالبقاء بصحبتي صامتا .
في تلك اللحظة العابرة شعرتُ بجسم غريب يدب فوق حذائي و يُحدثُ لي إزعاجًا ، لأنني كنتُ أشعرُ و كأن خيوطه كانت تُؤكل و تُمْدضغًُ .
ألقيتُ نظرة تحت الطاولة لاستطلاع الأمر ، فإذا بي أفاجأ بفأر صغير يقضم خيوط حذائي ، لم أشعر إلا و قد نهضتُ مذعورا و بحركة اندفاعية تسببت في تكسير الكؤوس و باقي الأواني التي كانت موضوعة فوق الطاولة ، و صحتُ بأعلى صوتي :
” إنه فأر ينهشني ، ماهذا ؟ لم تعد هذه مقهى و لكن مرحاضا !”.
تقدم لدي النادل ، يعتذر و يؤكد أن هذه الحالة معزولة و غير مسبوقة و لن تتكرر . و كان يحاول بذلك التخفيف من من ذعري و خوفي و ارتباكي .
نظف المكان و نقلني لطاولة أخرى .
هدأتُ بعض الشيء ، خاصة و أن مرافقي العابر الذي كان قد أتعبني بثرثرته، انسحب لحال سبيله .
و إصرارا مني رجعتُ ثانية لكتابي ، و بينما أنا أتصفحه ثانية ، فإذا بأحد البلهاء ، يطلبُ مني أن أمكنه من استشارة قانونية لمشكل قائم بينه و بين أفراد أسرته ، بسبب تركة ورثوها جميعهم من مورثهم أبيهم ، و كانوا يريدون اقتسامها .
كان يتكلم بسرعة لدرجة لم أكن أستوعب شيئا مما يعرضه ، كما أن اشمئزازي منه ازداد بسبب بصاقه الذي كان يتناثر من فمه .
و فجأة شعرتُ بدوران و برغبة في القيء ، فنهرته، منبها إياه ، إلى أنني في مكان عمومي و أريد أن أستريح ، بعيدا عن أجواء العمل ، ملتمسا منه بكثير من الكياسة و اللطف – بعد أن أدركتُ ، أنني كنتُ قاسيا معه- ، بأن يتفضل و يربط الاتصال بكاتبتي من أجل موعد لدراسة القضية .
لم تُعجبه النهاية التي آل إليها هذا اللقاء و انسحب مرغما .
و ما هي إلا لحظات قصيرة ، كنتُ بصدد استرجاع أنفاسي ، و أهيئ فيها نفسي للانغماس في القراءة ، حتى سمعتُ صوتا يستجدي و يطالبني بمساعدة مادية ، نظرا لكونه أب لأسرة متعددة الأفراد و هو معيلهم الوحيد ، و أن بعضهم مرضى و ليست له الإمكانيات المالية لتغطية المصاريف المطلوبة في مثل هذه الحالات .
كان الرجل في منتصف العمر ، نحيل الجسد ، طويل القامة ، بشعر أشعث ، و لحية مهملة ، و بأسنان ساقطة ، تظهر إذا فتح فمه .
تذكرته جيدا ، ذلك أنه سبق و أن نصب عليَّ ، بنفس المبررات و أخذ مني ما تيسر من النقود .
انتفضتُ من مكاني ، بعد أن قلبتُ الطاولة بما عليها ثانية ، و خرجتُ من تلك المقهى اللعينة بسرعة رافعا يدي إلى الأعلى ، وأنا أصيح :
” كفى ! كفى ! إنه ضجر و انقباض و تعب ، يكاد رأسي ينفجر و أكاد أُ جَنُّ “.