ضَجَرٌ

29 أغسطس 2025

_ الأستاذ : ادريس حيدر .

في ذلك اليوم ، شعرتُ بقلق ينتابني ، لا أدري هل مبعثه الحرارة المفرطة التي تُحوِّلني إلى شخص منهار من شدة التعب ، لا أطيق فيها نفسي ، أم أن الأمر يتعلق برتابة و روتين ثقيل على روحي و وجداني .
حاولتُ أن أخفف على حالتي النفسية المتدهورة ، و ذلك بالبحث عن ملاذ ، أجد فيه بعض الرطوبة لعل جسدي ينتعش .
انزويتُ في ركن بإحدى المقاهي مصحوبا برائعة الأديب الروسي :” فيودور دويستويفسكي” ، هادفا من وراء ذلك الترويح عن نفسي ، و إطلاق عنان خيالي يهبم و يسبح ، لعلي أجد بعض الهدوء و الطمأنينة .
إلا أنه و بمجرد تصفحي للصفحات الأولى ، حتى انتصب أمامي أحد معارفي القديمة ، و جلس بجواري دون استئذان ، و بدأ يحدثني عن وقائع من الماضي المشترك و التي لم أعد أتذكرها ، و عن أشخاص نسيتهم .
و فجأة أخرج سيجارة من النوع الرديء، و كان كلما أخذ نفسا منها ، إلا و نفث دخانها على وجهي ، بحيث بدأتُ أشعر بالاختناق خاصة و أن رائحته كان تمتزج برائحة نَفَسِهِ الكريهة .
كان يتكلم بدون توقف ، و بالمقابل لم أكن أسمع لما يقول ، بل و لم أكن أفهم مضامين حديثه .
و عَبَّرتُ عن امتعاضي بطرق ملتوية ، تارة بتغيير ملامح وجهي بشكل يوحي بعدم ارتياحي ، و أخرى أبدو له شاردا ، لا أسمع له ، لكي يفهم أنني غير مستعد للتفاعل معه .
سكت لحظة قصيرة ، ربما كان يُفكر في القرار الذي سيتخذه ، إما بالانسحاب أو بالبقاء بصحبتي صامتا .
في تلك اللحظة العابرة شعرتُ بجسم غريب يدب فوق حذائي و يُحدثُ لي إزعاجًا ، لأنني كنتُ أشعرُ و كأن خيوطه كانت تُؤكل و تُمْدضغًُ .
ألقيتُ نظرة تحت الطاولة لاستطلاع الأمر ، فإذا بي أفاجأ بفأر صغير يقضم خيوط حذائي ، لم أشعر إلا و قد نهضتُ مذعورا و بحركة اندفاعية تسببت في تكسير الكؤوس و باقي الأواني التي كانت موضوعة فوق الطاولة ، و صحتُ بأعلى صوتي :
” إنه فأر ينهشني ، ماهذا ؟ لم تعد هذه مقهى و لكن مرحاضا !”.
تقدم لدي النادل ، يعتذر و يؤكد أن هذه الحالة معزولة و غير مسبوقة و لن تتكرر . و كان يحاول بذلك التخفيف من من ذعري و خوفي و ارتباكي .
نظف المكان و نقلني لطاولة أخرى .
هدأتُ بعض الشيء ، خاصة و أن مرافقي العابر الذي كان قد أتعبني بثرثرته، انسحب لحال سبيله .
و إصرارا مني رجعتُ ثانية لكتابي ، و بينما أنا أتصفحه ثانية ، فإذا بأحد البلهاء ، يطلبُ مني أن أمكنه من استشارة قانونية لمشكل قائم بينه و بين أفراد أسرته ، بسبب تركة ورثوها جميعهم من مورثهم أبيهم ، و كانوا يريدون اقتسامها .
كان يتكلم بسرعة لدرجة لم أكن أستوعب شيئا مما يعرضه ، كما أن اشمئزازي منه ازداد بسبب بصاقه الذي كان يتناثر من فمه .
و فجأة شعرتُ بدوران و برغبة في القيء ، فنهرته، منبها إياه ، إلى أنني في مكان عمومي و أريد أن أستريح ، بعيدا عن أجواء العمل ، ملتمسا منه بكثير من الكياسة و اللطف – بعد أن أدركتُ ، أنني كنتُ قاسيا معه- ، بأن يتفضل و يربط الاتصال بكاتبتي من أجل موعد لدراسة القضية .
لم تُعجبه النهاية التي آل إليها هذا اللقاء و انسحب مرغما .
و ما هي إلا لحظات قصيرة ، كنتُ بصدد استرجاع أنفاسي ، و أهيئ فيها نفسي للانغماس في القراءة ، حتى سمعتُ صوتا يستجدي و يطالبني بمساعدة مادية ، نظرا لكونه أب لأسرة متعددة الأفراد و هو معيلهم الوحيد ، و أن بعضهم مرضى و ليست له الإمكانيات المالية لتغطية المصاريف المطلوبة في مثل هذه الحالات .
كان الرجل في منتصف العمر ، نحيل الجسد ، طويل القامة ، بشعر أشعث ، و لحية مهملة ، و بأسنان ساقطة ، تظهر إذا فتح فمه .
تذكرته جيدا ، ذلك أنه سبق و أن نصب عليَّ ، بنفس المبررات و أخذ مني ما تيسر من النقود .
انتفضتُ من مكاني ، بعد أن قلبتُ الطاولة بما عليها ثانية ، و خرجتُ من تلك المقهى اللعينة بسرعة رافعا يدي إلى الأعلى ، وأنا أصيح :
” كفى ! كفى ! إنه ضجر و انقباض و تعب ، يكاد رأسي ينفجر و أكاد أُ جَنُّ “.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading