ياك أخاي بلادن/ قصة قصيرة..

23 أغسطس 2025

بقلم : ذ . زكرياء الساحلي

كثير من الناس يلقبوننا بالجيل الذهبي، أو المخضرمين مزدوجي الذاكرة، وذلك لأننا ولدنا في مرحلة انتقالية بين عالمين؛ الأول تناظري والثاني افتراضي.
فقد فتحنا أعيننا على الجرائد والراديو والمراسلات عبر الرسائل الورقية، وعلى الاستماع إلى أغاني الراي في مسجلات قديمة، دائما ما كانت تبتلع أمعاء الكاسيط.
أما التلفاز فقد كان جهازا مقدسا يتربع وسط صالة الجلوس، ويتزين بمنديل مطرز أبيض اللون، وفوقه مزهرية ورود بلاستيكية، وكان يبث قناة وحيدة إسمها مثل مضمونها “إتم” ولأن نصف برامجها كان عبارة عن بث للأنشطة الملكية ولرياضات النخبة كالفروسية والغولف والتنس، فقد اكتشف المغاربة أن وضع “الكسكاس” و”ميكا” سوداء على اللاقط الهوائي “لانطير” يمكنهم من الانفتاح على العالم الخارجي، خاصة القنوات الأرضية الإسبانية والبرتغالية.
ومثل أسطورة الكهف لأفلاطون، فقد كانت بثوث هذه القنوات كظلال على جدران كهفنا، ترسم لنا عالما غربيا مثير للدهشة والقلق.
ومع ظهور الأنترنت تحررنا من الكهف، وخرجنا نتحسس عالما بلا حدود، وصار الحوار مع غرباء بعيدين، بطريقة مباشرة، أمرا ممكنا، وأصبح حلم الهجرة إلى أمريكا وأوروبا قد يتحقق بضغطة زر مناسبة.
ورغم أن الساعة الواحدة من الأنترنت كانت تكلف عشر دراهم في السيبير فقد كنت دائما ما أمضي ساعات طويلة لتعلم الإبحار فيه.
أدلف إلى السيبير كل مساء، وما أن أشغل أحد الحواسيب المكتبية المتراصة – و التي كانت غالبا من نوع Pentium2- حتى تنطلق همهمة مستمرة، وهروبا من ضجيجها كنت أعتمر الكاسك البلاستيكي الأسود، الذي يحمل وسادتين إسفنجيتين متهالكتين، وأقتحم عوالم البالتوك والكراميل وغرف الياهو، وإذا تجمد المتصفح كنت أضرب الفأر ذي الكرة المطاطية أسفله ليعود إلى العمل.
وبشكل مبكر اكتشفت موقع faceparty البريطاني، أنشأت حسابا مثيرا، ونشرت عليه بعض صوري،
تصفحت صور الفتيات الشقراوات ذوات عيون الملونة من باريس ولندن وبرلين وامستردام، ثم كنت أنتقي عينة مدروسة منهن، وأرسل لهن رسائل بلغة انجليزية ركيكة:
Hi, I’m from Morocco. Do you want to chat
راكمت خبرة لا بأس بها في التعامل مع الفتيات الأوربيات، فبنات الجنوب الأوروبي، كفرنسا وإيطاليا (اللواتي سبق لهن الاحتكاك بالمهاجرين المغاربيين) كن أكثر دهاءً ومكرا من مثيلاتهن في الشمال كالسويد وايسلاندا وحتى ألمانيا، حيث وجدنا فيهن الغفلة والحنية، وكن يغدقنا علينا بالتحويلات المالية كهدايا بدون حساب.
ذات يوم تعرفت على فتاة أمريكية، ما زلت أتذكر إسمها “أميليا” كانت بيضاء البشرة، شقراء الشعر، قصيرة القامة ربما مترا وستين سنتمترا، تعمل في مجال الرعاية الطبية، تحديدا مع مرضى فقدان المناعة المكتسبة “السيدا”
أخبرتها أنني من “موروكو” فتساءل متعجبة:
– لم اسمع به من قبل.
أجبتها:
– نحن نقع في شرق العالم.
– أنا بدوري أسكن في شرق العالم في ولاية “ماريلاند”
عندها علمت أن شرق العالم بالنسبة لها ليس وهو شرق العالم بالنسبة لنا، فعالمها هو أمريكا وباقي الدول مجرد هوامش على الخريطة.
هل تعرفين دولة إسبانيا التي تقع في الجنوب الاوروبي، دولتنا تقع تحتها مباشرة لا يفصلنا إلا بحر صغير.
حاولت أن أوهمها في حوارنا الأول، أننا دولة أوروبية وكان اسم “مروكو” مساعدا جدا.
ومع توالي المحادثات، تعمقنا في النقاش أكثر، وكنت كل مرة أزرع لها معلومة، مرة أنني عربي، ومرة أن ديني مختلف عن دينها، وأنني من شمال إفريقيا، وجدتها منفتحة أكثر، متعطشة للتعرف على العالم الكبير.
دعوتها إلى زيارة المغرب الغني بثقافته وتراثه، كانت تحدثني بدورها عن عائلتها، عملها، أفكارها، وأحلامها.
ومن كثرة إشتياقها لي، دعتني لزيارة أمريكا، ولم لا الزواج بها، وستتكلف هي بكل المصاريف المالية لأتمكن من ذلك، وبالفعل استخرجت جواز السفر، وبينما نحن في خضم القيام بالإجراءات القانونية وقعت هجمات 11 شتنبر 2001 .
كان هول الصدمة كبير عليها، وانقلبت علاقتي بها رأسا على عقب، فأنا العربي المسلم الوحيد الذي تعرفه، وقد أوهمها الإعلام، آنذاك، أننا إرهابيون، لا نعرف إلا كيف نستغلهم حتى نصل إلى أرضهم، ثم نفجرهم ونقضي عليهم.
إنتهت علاقتنا بطريقة دراماتيكية، وأنا أقول في قرارة نفسي “ياك أخاي بلادن ما جبرتي فوياخ تفجر أمريكا”
غادرت موقع faceparty الذي خفت بريقه بالنسبة لي، وبعد بضع سنين أخبرني صديقي أن موقعا جديدا قد ظهر إسمه Facebook مليئ بالطلبة الأمريكيين، وهذه فرصة للبحث عن همزة جديدة.
ولجت إلى الفيسبوك لألعب فقط لعبة المزرعة السعيدة حتى وجدت نفسي في عام 2025 وأنا مازلت مدمنا عليه، لكنني، على الأقل، تعرفت فيه على أشخاص رائعين مثلكم.
* صورة من حسابي القديم على موقع faceparty

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading