
– بقلم ذ.محمد الشدادي
(( هذه القصة لم تكتب من فراغ، بل كتبت من قلب مثقل بالفقد، ومن ضمير ممتن لامرأة رحلت عن الدنيا، لكنها تركت فيها أثرا لا يمحى. رحلت العمة رشيدة المقرئ الإدريسي، وتركت خلفها عشرات الأرواح التي انتشلتها من الضياع، ومئات القلوب التي لمستها دون أن تطلب شيئا.
كتبت هذه القصة احتفاء بذكراها، ودعوة للمجتمع كي لا ينسى أمثالها، الذين بحبهم للخير حولوا الأشواك إلى ورود تنشر طيبها داخل المجتمع، والصحاري إلى حدائق غناء ملجأ كل طائر عاشق للحرية ، فمن قدموا الخير بصمت، يستحقون أن تخلد أسماؤهم على دار، أو شارع، أو مركز، أو مؤسسة تعليمية أو اجتماعية.. لا ليكرموا فقط، بل ليكونوا منارات تضيء الطريق لمن يأتي بعدهم، ولتنقل مشاريعهم عبر الأجيال)).
كان سالم فتى طموحا، يحلم أن يصبح طبيبا، لا ليحمل شهادة ولقبا، بل ليداوي الجراح التي رآها في طفولته. كانت والدته تضع فيه ثقتها كاملة، تراه مشروعا ناجحا، وتفاخر به أمام الجيران، لكن الثقة حين لا ترافقها رقابة، قد تتحول إلى غفلة.
كل شيء تحول مع دخول طارق إلى حياته، زميله في الثانوية، الذي كان يتحدث بثقة زائدة، ويظهر نفسه كمن جرب الحياة بكل ألوانها. في إحدى الأمسيات، جلسا معا في حديقة مهجورة قرب المدرسة، وكان طارق يحمل سيجارة غريبة الشكل، يتعامل معها وكأنها مفتاح لعالم آخر. قال له وهو ينفث دخانا كثيفا: أنت دائما متوتر يا سالم، تفكر كثيرا، فكثرة القراءة ترهق وتتعب، عليك بين الفينة والأخرى أن تروح على نفسك… جرب هذه السيجارة، فقط مرة واحدة، وستزيل ما بك من توتر، ستشعرك كأنك تطير محلقا في السماء سعيدا.
رد سالم بتردد: لا أريد أن أضيع مستقبلي… أمي تثق بي.
ضحك طارق وقال: مستقبلك؟ جرعة واحدة لن تقتلك، ولن تغير شيئا منك، كن رجلا، لا تكن جبانا.
ثم بدأ يروي له قصصا عن الراحة والتحرر والهدوء، مستخدما كلمات مغرية، تخاطب قلبا مثقلا بالضغط الدراسي، وبالخوف من الفشل. ولم يكن سالم يبحث عن المتعة، بل عن مهرب، ولو مؤقتا.
وفي تلك اللحظة، لم يكن سالم وحده من يتحمل المسؤولية، بل كان هناك غياب واضح لمن كان يجب أن يمسك بيده قبل أن تمتد له يد طارق لتلقى به نحو الهاوية.
أيها الآباء والأمهات،
الثقة في الأبناء لا تعني الغياب، فالمجتمع ليس دائما رحيما، فيه من يتقن فن افتراس الفضيلة، ويجيد التسلل إلى النفوس الهشة، كما فعل طارق بهذه الزهرة المتفتحة. كان من الممكن أن ينقذ سالم منذ البداية لو وجد من يسأله: كيف كان يومك؟ هل تحتاج أن تتحدث؟ هل هناك ما يقلقك؟ لكن الصمت كان سيد الموقف، والثقة العمياء كانت الغطاء الذي اختبأ تحته الانهيار.
أيها الآباء والأمهات،
لا تتركوا أبناءكم وحدهم في مواجهة هذا العالم، راقبوا، اسألوا، شاركوا، وكونوا جزءا من تفاصيلهم اليومية، وإن انحرفوا، لا تتخلوا عنهم، وتعينوا الشيطان على استدراجهم للسقوط والانحدار، فباب العودة لا يغلق، والقلوب التي تاهت يمكن أن تهتدي من جديد، إن وجدت من يمسك بيدها دون أن يدينها.
سالم مد يده، وأخذ السيجارة، كانت تلك الجرعة الأولى من السم بداية الانحدار. تدهور مستواه الدراسي، رسب، وبدأ يسرق من والدته ما استطاع، ليشتري ما يسكن ذلك الوحش الذي استوطن جسده. سرق حتى خاتم زواجها وما تملك من ذهب في غياب منها، طرد من البيت، وتشرد، وأصبح وجهه شاحبا، وعيناه غائرتين، لا يرى فيهما أحد سوى الضياع.
في محطة المسافرين لمدينة القنيطرة، حيث اختار سالم أن يكون مكان تواجده الدائم، كانت سيدة خمسينية تمر كل أسبوع، تحمل قفة ثقيلة وتطلب من سالم مساعدتها، كانت تدفع له بقشيشا بسيطا، وتبتسم دون أن تكثر الكلام. لم يكن يعلم أن تلك السيدة تراقبه منذ مدة، وتخطط للتقرب منه دون أن تشعره بأنها تراقبه أو تشفق عليه.
تكررت اللقاءات، مرة تطلب منه أن يحمل القفة، مرة أن يساعدها في شراء شيء، ومرة أن يرافقها إلى مكان إداري لتوقيع أوراق. كانت تختار كلماتها بعناية، لا تكثر الحديث، لكنها تترك أثرا. وفي كل مرة، كانت تترك له بقشيشا، وكأنها تقول له: أنت تستحق، ولو القليل. وفي أحد الأيام بينما كان يساعدها في حمل بعض الأثقال، لمح ورقة على الأرض، فانحنى والتقطها، قرأها بصوت خافت: “اقرأ باسم ربك الذي خلق…”
نظرت إليه السيدة، وقالت: هل تعرف القراءة؟ هل سبق لك أن قرأت هذه السورة ؟
أجابها، وهو لا يزال ممسكا بالورقة كمن يمسك شيئا مقدسا: نعم، عمتي، إنها أول ما نزل من القرآن، أول أمر كان: اقرأ.
سألته عن مستواه الدراسي قبل أن ينقطع، وعن طموحه، فاستيقظت فيه الذكرى، وارتجف قلبه بالحنين. باح لها بندمه، واغرورقت عيناه بالدموع، وقال: لو عاد الزمن إلى الوراء، لما أطعت طارق وصاحبته، ولما خذلت نفسي وأمي بانقطاعي عن الدراسة. فطارق كان سبب كل البلايا…
ابتسمت السيدة، وقالت له: هون عليك يا سالم ؟ ما دام القلب ينبض، فالبداية ممكنة، لا تحمل هما فوق طاقتك، فقط طاوعني ونفد ما أطلبه منك، هناك مكان يمكن أن يساعدك، إن أردت أن تساعد نفسك. لم تقل له ما هو ذلك المكان، فقط أعطته عنوانا، وودعته بابتسامة دافئة.
ذهب سالم إلى العنوان، وهناك استقبله شاب في مقتبل العمر، وقال له: أهلا بك، أنت لست الأول الذي ترسله العمة رشيدة.
تفاجأ سالم، وسأل: تعرفونها؟
ضحك الشاب، وقال: كلنا نعرفها، ولولاها لما وصل كثير منا إلى هنا.
في إحدى جلسات الدعم النفسي بالمركز، باح أحدهم: كنت أظن أنني انتهيت، لكن العمة رشيدة ظهرت فجأة، كأنها تعرف متى يسقط الإنسان، وتعرف كيف ترفعه دون أن تشعره بأنه ضعيف. حينها فقط، فهم سالم أن تلك السيدة لم تكن عابرة سبيل، بل كانت منقذة، تعمل بصمت، وتنقذ الأرواح دون أن تعلن عن نفسها.
انخرط سالم في رحلة العلاج بالمركز وشارك في جلسات الدعم الجماعي، حيث وجد من يشبهه، من يفهمه، من يشاركه الطريق. وفي إحدى الجلسات، قال: كنت أظن أنني ضائع إلى الأبد، لكنني وجدت من يراني، لا كمدمن، بل كإنسان.
بعد أسابيع، اتصل بوالدته، وقال لها: أمي، لقد بدأت أتعافى، العمة رشيدة آمنت بي حين لم يؤمن بي أحد، وفتحت لي بابا كنت أظنه مغلقا إلى الأبد. ولم يكن يعلم أن العمة رشيدة زارت والدته وأخبرتها أن سالم يحتاج إلى دعمها قصد إنقاده من سم الإدمان القاتل.
ردت عليه والدته ، والدموع تملأ صوتها: أنا فخورة بك يا بني، وفخورة بتلك السيدة التي أعادت إليك الحياة، سامحتك ياعزيزي، وأملي أن تعود إلي سالما معافى .
بعد سنوات من التعافي، أنهى سالم دراسته في علم النفس، وقرر أن يفتتح مركزا صغيرا في حي شعبي، يحمل اسما واحدا “دار العمة رشيدة” ، مكان لا يسأل فيه الداخل عن ماضيه، بل يسأل عن حلمه القادم. وعند مدخل الدار، علق سالم لوحة تعريفية مكتوب عليها: دار العمة رشيدة، هنا لا يسأل الداخل عن ماضيه، بل يسأل عن حلمه القادم. هذا البيت ولد من قلب امرأة آمنت بالناس حين لم يؤمنوا بأنفسهم، واحتضنت المنكسرين دون أن تسألهم عن سبب سقوطهم. في هذا المكان، يعاد بناء الإنسان بالرحمة لا بالحكم، وبالحب لا بالتوبيخ. جل من عبروا بابه، كانوا يوما في الظل، ثم ولدوا من جديد، وأتموا دراستهم، وحققوا طموحهم.
ثم أمسك بيد والدته، وأكمل كلمته أمام الحضور وهو يشير إلى صورة العمة رشيدة المعلقة أمامه، وعيناه تلمعان بالامتنان وقال: كانت لي أمان في هذه الحياة، الأولى انتقلت إلى رحمة اللة، وهذه صورتها، والثانية واقفة بجانبي الآن لم تتخل عني رغم ما فعلت، إنها أمي، وانحنى مقبلا يدها، وأكمل كلمته: العمة رشيدة لم تكن فقط منقذتي، بل كانت أول من رآني حين كنت أظن أنني غير مرئي، وهذا المكان ليس تكريما لها فقط، بل استمرار لرسالتها. كل من يدخل هنا، يدخل إلى قلبها.
ساد الصمت، ثم تصاعد التصفيق، ليس فقط احتراما لكلماته، بل اعترافا بأن الخير، حين يزرع بصمت، يثمر في كل قلب عطشان للرحمة. وفي زاوية من القاعة، كانت صورة العمة رشيدة معلقة على الجدار، بابتسامة هادئة، كأنها تقول: أنا لم أكن بطلة، فقط كنت أؤمن أن كل إنسان يستحق فرصة ثانية. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت دار العمة رشيدة أكثر من مركز علاج…
في حفل الافتتاح هذا، لم يكن الحضور مقتصرا على من تعافوا من الإدمان، بل كان بينهم أطباء، أمهات، شباب، فاعلون جمعويون، مسؤولون، وجيران من الحي، اجتمعوا جميعا ليشهدوا ولادة هذا الفضاء الجديد، لا ليعالج فقط، بل ليربي على الأمل، ويعيد بناء الثقة للإنسان.
وهكذا أصبحت بيتا للذين سقطوا، فوجدوا من يرفعهم، أصبحت عنوانا للرحمة، وللأمل، وللأمهات والآباء الذين قرروا ألا يتخلوا عن أبنائهم، مهما انحرفوا.
وفي كل صباح، حين يفتح الباب، يكتب على السبورة الصغيرة عند المدخل:
مرحبا بك… لا نريد أن نعرف كيف سقطت، بل كيف ستنهض.