
بقلم : ذ . أحمد العبودي
في صباح يوم أحدٍ غائم، خرجت أفتش عن الوجوه المألوفة من أصدقائي، أتجول بين الأزقة المبللة بندى الفجر. لم أصادف أحدا منهم، كأنهم تآمروا عليًّ. فجأة، تجمّدتُ في مكاني، وكأن نداءً صامتا انبعث من ركن بعيد فاستوقفني…ثمة إعلانٌ عجيب، كتب على جدار مهترئ، لا يشبه الإعلانات المعتادة التي تٌعِدها الإدارات وتُعلّقها على عجل في أماكنها المألوفة، إعلان بخطّ يدويّ بديع، متناسق، يفيض بجماليات ساحرة. همستُ لنفسي وأنا أتأمل رقصة الحروف وانعطافاتها الأخّاذة: ما هذا الإبداع الذي جمع بين رونق الخط وسطوة اللغة؟ لعل فنانا متلبّسا بالإلهام أنشأ سطورا من حُلُمه المهدور على هذا الجدار، شرعت أقرأ : ” إعلان ـ في إطار بطولة العالم للوزن الثقيل، يعلن الاتحاد الدولي للملاكمة عن تنظيم نزال ناري على حلبة “أرانيتا كوليسيوم” في مانيلا ـ الفلبين، وذلك يوم فاتح(01) أكتوبر 1975 بين الأسطورة محمد علي و جو فريزر، في ثالث أعنف نزال ، سماه البعض: رعب مانيلا.”
استبدَّتْ بي لحظة دهشة كنت فيها أشعر بشيء غامض؛ هل هو إعلان حقيقي استُعير من أرشيف قديم؟ أم هو مجرد مزحة؟
لكن ما أدهشني أكثر، أنني لمحت الإعلان نفسه يتكرر في أماكن شتى، كأنما يطاردني حيثما مضيت؛ على أبواب المقاهي، وعلى جدران المستودعات، وحتّى في زوايا الأزقة المنسية. كان الإعلان بنفس السُّمْك والحجم والمقاس.
حين وصلت إلى المحطة الطرقية القديمة ، تلك التي هجرتْها الحافلات منذ زمن، وصارت موطنا لصدأ المتلاشيات ، ظهر على الجانب الخلفي من سور المحطة شبح بشريّ، عاكف على نقش الإعلان ذاته بقطعة فحم أسود، يبدو متعجّلا، كمن يرغب في تدارك لحظة تُوشك أن تنطفئ. اقتربتُ منه ، مدفوعا بفضولٍ داخلي لم أستطع كبحه. كان شابا أسمر البشرة، شعره الأسود المسترسل يتدلى قليلا على مقدمة رأسه، وعلى ملامح وجهه ارتسم شيء من حزن عتيق وأمارات إصرار صامت. يداه ترقصان وهو يعيد كتابة الإعلان ، بإيقاعٍ يكاد يُسمع.
توقفتُ مذهولا، أحاول أن أفهم هذا الطقس الغريب الذي ساقتني إليه محاسن الأقدار. لم يشعر بوجودي إلا حين ابتعد قليلاً عن الجدار ليتأمل ما كتب بعينيه الغائرتين .
ناديته ، ثم سلّمت، لكنه لم يردّ على تحيتي. التفتَ إليّ بنظرة حسيرة، كأنها آتية من مكان سحيق لا تدركه العيون، ثم استدار ومضى، تاركا خلفه الجدار والإعلان.
إنه مصطفى، شابٌ من نزلاء الجمعية الخيرية الإسلامية. كان اسمه يتردّد بيننا همسا في أيام الدراسة. غادر الثانوية دون أن ينتبه إليه أحد. قيل لنا إنه يعاني من اضطراب ذهني ، وإنه كان خطاطا موهوبا، كما كان يعشق رياضة الملاكمة إلى حدّ الهوس، أحيانا كان يهذي أمام الملأ، ساخطا على حكم المقابلة ، وأحيانا أخرى يتحسر لأن محمد علي كلاي أخّر الضربة القاضية عن موعدها. لعله كان يستدعي في هذيانه حرارة النزال التي كادت تفتك بمحمد علي وتحرمه من اللقب العالمي لثالث مرة.
حقّاً، في ذلك الصباح لم ألتق بأحدٍ من أقراني، لكنني ظفرتُ بقصة إعلانٍ صاخب، ظلّت حبيسة صدري نصف قرن. ومعها اكتشف اليوم روحا تبحث عن معنى في زمنٍ يطوي الأرواح العنيدة ويمضي سريعا، دون أن يلتفت. الآن تبدو لي الحروف ـ بالرغم من جمالها ورونقها ورقتها ـ وكأنها تقاتل هي الأخرى. ويخُيّل إليّ أن الكتابة ليست سوى نزالٍ لا حدّ لجولاته، وأما الجنون، فقد يكون جولة الحسم النهائية