من الهيلولة إلى الرحيل: ذاكرة يهود القصرالكبير في طفولتنا

14 يوليو 2025
Oplus_131072

بقلم الأستاذ : عبد المجيد بوزيان .

في زوايا الذاكرة الطفولية، تسكن صور لا تنسى من زمن كان فيه التعايش بين المسلمين واليهود جزءًا من نسيج الحياة اليومية في مدينة القصر الكبير، وبصدق طفولي وحنين ناضج، أتذكر فصولاً من تلك الأيام التي جمعتنا بيهود المدينة قبل أن تفرّق بيننا رياح السياسة ورياح الصراع العربي الاسرائيلي.
في سن مبكرة، لم أكن قد تجاوزت السنة العاشرة من عمري، وكغيري من أطفال وشباب حي للا فاطمة الأندلسية وحي بلعباس بمدينة القصر الكبير، كنا ننتظر بشوق الاحتفال السنوي الذي كانت تنظمه الطائفة اليهودية المغربية، ومعهم الجاليات اليهودية القادمة من الخارج. كان يُعرف هذا الاحتفال باسم “الهيلولة”، ويقام تحديدًا في حي بلعباس بضريح الحاخام يهودا الجبلي، وهو رجل دين عاش في القرن الثامن عشر، نُسبت إليه كرامات روحية، ويقال أنه كان معروفًا بورعه وتقواه.
خلال أيام الهيلولة، كنا نشارك، نحن أبناء الحي، في تقديم خدمات للزائرين مقابل أجر محترم، مثل نصب الخيام، وجلب الماء، والمساعدة في نظافة المكان. وبتلقائية صافية، كنا نحضر بعض مظاهر الاحتفال غير الدينية، كالحفلات الموسيقية الأندلسية التي كانت تقام على هامش الطقوس، حيث إن أغلب اليهود بالقصر الكبير كانوا من أصول أندلسية، وقد حملوا معهم هذا التراث إلى مدينتنا.
كنا نشاركهم أيضًا مأدبة الطعام، التي لم تختلف كثيرًا عن أطباق المغاربة، مما جعل أجواء الهيلولة تبدو وكأنها احتفال جماعي لا يفرّق بين أحد. أما الطقوس الدينية فكنّا نراقبها من بعيد، وهم يوقدون الشموع، ويدعون بخشوع عند الضريح، ويتلون التلمود. أذكر بشكل خاص يهوديين من الطبقة الفقيرة: سُمّير الملقب باللوكو وصديقه الملقب بحُمِّيصة والذي لا أتذكر اسمه الحقيقي، وقد كانا يتلوان التلمود طوال اليوم وطيلة أيام الاحتفال، ويتقاضيان أجرًا مما يضعه الزوار في صندوق مخصص لهما ولقراء التلمود الفقراء
في تلك الفترة، كان “كريسبي” المعروف ببائع الخمور وأمين الطائفة اليهودية بالمدينة، هو من يُشرف على تنظيم وتدبير شؤون الحفل.
لكن سرعان ما تغيّرت هذه الأجواء بعد هزيمة العرب في حرب 1967، بدأت علاقتنا كأطفال وشباب بيهود المدينة تتأثر سلبًا بخطاب سياسي متوتر، فتحول التعاطف إلى عداء، والمودة إلى استهداف.بحيث أصبح قذف أبواب منازلهم بالحجارة سلوكًا شائعًا، دون وعي منا بأننا ننفذ مخططات أكبر منا، تقف خلفها جهات تستغل الصراع لأغراض أخرى. ولم تكن القصر الكبير استثناءً، فقد عرفت مدن مغربية وعربية أخرى موجة مماثلة من العداء.
ونتيجة لذلك، بدأت الهجرة الجماعية لليهود نحو إسرائيل، وبعضهم نحو أوروبا وأمريكا، رغم أن كثيرين منهم لم يرغبوا أصلًا في المغادرة. وخلال سنوات قليلة اختفوا جميعًا تقريبًا من مدينتنا، باستثناء الزاكوري اليهودي الذي بقي بسبب علاقاته الطيبة مع السكان ومصالحه التجارية المشتركة مع التجار المسلمين.
هكذا انطفأ نور الهيلولة في حي بلعباس بمدينة القصر الكبير، واختفت مظاهر التعايش التي طبعت طفولتنا، وما زلت أذكر تلك الأيام، وما خلفته التحولات السياسية لما امتدت إلى تفاصيل الحياة اليومية البسيطة، لتفكك
روابط بناها الإنسان بنفسه، ومنذ تلك السنوات تجدرت القضية الفلسطينية في ذاكرتنا وأصبحت قضية لا يمكن التخلي عنها، وتأسس موقفنا الذي لا يساوم ولايتغير ألا وهو دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading