
_ لبيب المسعدي :
أحيانًا! أريد أن أتجاهل ما بداخلي. هذا العالم المعقد من الذكريات والأسئلة التي لا جواب لها، تلك الأصداء التي تطاردني كظل لا يفارق جسدي. أغمض عينيّ، ألهث وراء السطحيات. أتعلق بأي شيء قد يبعدني عن الغوص في ذلك المستنقع الذي أعرفه جيدًا، وأخشاه أشد الخوف.
حقا! التجاهل والهروب من الذات فعل مؤلم جدًا. فكل مسافة أضعها بيني وبين حقيقتي، تتحول إلى جرح أعمق. أتجاهل، فأشعر أن شيئًا ما ينزف في صمت. أتجنب، فإذا بي أقع في شباك ما أتهرب منه.
ربما كان الألم الذي أرتعد منه هو نهاية الطريق، وبدايتها معًا. ففي قاع الوحشة، حيث لا مفر من المواجهة، تولد نقطة التحول. قد يكون الاعتراف بما نخبئه هو الجرح الأخير قبل أن تبرأ القلوب.
لحظة الصدق مع الذات قد تشبه الموت قليلاً… نموت عما كنا نعتقد أننا عليه، لنبعث أغنى بما اكتشفناه. فكل هروب هو خيانة لأنفسنا، وكل مواجهة مع الحقيقة وإن كانت مؤلمة هي بدء الخلاص.
لا يشفى الجرح إلا إذا نظرنا إليه. وأشد جراحنا هي التي نصر على إخفائها. فصعوبة الشرح تجبرني على الصمت دائما.
احيانا، تنفجر في الداخل عواصف من المشاعر والافكار التي تتشابك كجذور شجرة عتيقة، تتعذر تفكيكها او اخراجها الى النور. احاول صياغة ما يعتمل في صدري، فاجد اللغة عاجزة، كانما تخونني الكلمات حين احتاجها اكثر ما اكون اليه حاجة.
الصمت هنا اختيارا، بل استسلام امام عجز التعبير. فكيف لي ان اشرح لون الالم الذي لا يشبه سوى نفسه؟ او كيف انقل تجربة روحية واحساسا مرهفا بكلمات تخفضها الى مجرد معان ميتة؟ الصمت، في هذه الحالة، هو اللغة الوحيدة التي تليق بالحقيقة التي اعجز عن البوح بها.
حين يعجز الانسان عن ترجمة دواخله بدقة، يصير الكلام خيانة لتجربته الاصلية. فكلما حاول التعبير، شعر انه يسيء الى قدسية ما يختبره. وهنا، يتحول الصمت الى فضاء مقدس يحفظ فيه جوهر الاشياء من تشويه التعبير.
لكن هذا الصمت ليس فراغا، بل هو امتلاء صاخب بكل ما لا يقال. انه الحوار الاعمق الذي يدور بين الذات وذاتها، حيث تظل الحقائق نقية في معناها، بعيدة عن تشويه الفهم الخاطئ او النقص في التوصيل.
احيانا، يكون الصمت هو الترجمة الامينة للروح… حين تعجز الكلمات عن حمل اسرارها. فنحن نصمت لا لاننا لا نريد الكلام، بل لاننا نريد ان نحافظ على قدسية ما بداخلنا من فوضى عارمة وجمال مبهم. نصمت لاننا ندرك ان بعض الاشياء تفقد براءتها بمجرد النطق بها. نصمت لان في الصمت امانا للحقيقة من ان تساء قراءتها. وهكذا، تتحول صعوبة الشرح الى فن من فنون الحكمة: فن الاحتفاظ بالجوهر في صندوق الصمت، حتى يأتي اليوم الذي نجد فيه الكلمات التي تستحق حمل هذا الجوهر دون تشويه.