
– بقلم : الأستاذ عبد الحميد الزفري
للشاعر الحديث ناصيف اليازجي قصيدة بعنوان ” اعرف نفسك ” حيث يقول :
اني لقد جربت أخلاق الورى حتى عرفت مابدا وما اختفى
كل يعد نفسه نعم الفتى فمن هو اللئيم منا ياترى ؟
لو عرف الانسان عيبه لما رأيت عيبا فيه ما طال المدى
لا يشعر الجاهل بالجهل كما لا يشعر السكران ان صحا
لايحمد القوم الفتى الا متى مات ، فيعطى حقه تحت البلى
من قال لاأغلط في أمرجرى فانها أول غلطة ترى
ومن قال : غلطت في كذا وكذا ….. و ….. دون القفز على مواطن العلة لايجاد الحلول الأكثر فعالية فانه يظل مشلولا أمام السؤال الذي ينطلق من حاجات الواقع ورغبات أهله ، لا يجد نفسه سوى داخل الخيبات التي تمزق حلمه ، وبراكين من الرماد تعمي بصره فلا يرى في الشأن الثقافي ولا الفني الا مايشعر بالانهيار وهوس الاقتيات المذل للنفوس الذي يزداد امتدادا كلما كان حجم التظاهرة أكبر .
اننا نعيش وسط عالم محموم الخطى ، سريع الايقاع ، اذا لم تكن لدينا قدرة على استيعاب المستجد ، وملاحقة التشكلات التي بامكانها أن تدفع الاجتماعي والنفسي والفني والثقافي الى قيمه الرمزية الحقة ، بقينا مشلولين لا نبرح مكاننا ، وبقي شأننا الثقافي والفني طريدا داخل سويداء هذه المدينة ، تتحرق نفوس أبنائها ، طال انتظارهم في شوق الى هبة ندية ، تعيد لهذا المجال ، أو ذاك ، اشراقاته الأصيلة بمنأى عن نفاق الأخلاق ، ومقت السياسة ، وروح الوصولية التي تفرغ أي مهرجان من محتواه الحقيقي ، وأبعاده النبيلة ، لا كما حدث ويحدث مع كل دورات مهرجان عبد السلام عامر ، هذا الفنان الذي امتطينا صهوة اسمه فقط من غير محاولة ـ ولو في الدورة الأولى من المهرجان على الأقل ـ هتك أستار جهده الفني ، وراهنية وجوده بيننا رغم وفاته ، خصوصا عند ذوي الاختصاص ، وهم يعيشون
معنا ، أرهفنا السمع لبعضهم حتى أدركنا مدى الحقائق الغائرة والأسرار العميقة ، التي كانت تركن وراء شخصيته بدل الوقوف عند حدود ماهو فلكلوري غنائي في أغلبه رديء يكاد يقتل نسخ الحياة فينا ، عوض أن ينفخ في أوصالنا وشغاف قلوبنا سحره الموسيقي من خلال روائعه تؤدى بأصوات غضة طرية يفتح لها المجال ، فتمنح لها جوائز مالية حتى تجلي خباء عالمها المخفي ، وبذلك تحقق فتوحا جديدة بعد استرشادها بأهل الذوق والوجدان ، لكن للأسف كما قال الشاعر :
صور العمى شتى ، وأقبحها اذا نظرت بغير عيونهن الهام
ان اعتلاء المرء صهوة المهرجان دونما ملئه بما هو ايجابي بناء ، انما يفعل ذلك لافتقاده الاحساس بمدى خصوبة من شكل واحدة من تمظهرات المدينة ، فطبيعي ألا يقوى للقبض على اللحظات الأكثر تأثيرا في الماضي الفني للأغنية المغربية ، الى درجة جعلت الموسيقار محمد عبد الوهاب يحتفظ بأسطوانة رائعة عبد السلام عامر ” القمر الأحمر ” في خزانته الموسيقية .
هي لحظات كان بودنا استرجاعها خلال هذه المهرجانات بدل أن تفر منا كلما أمعن بنا الزمن في الابتعاد عنها ، اننا بحاجة الى ما أبحر فيه سرد ” مارسيل بروست ”
( بحثا عن الزمن المفقود ) حتى نستعيد التفاصيل المؤثرة لا للموسيقي عامر ولا للشاعر الخمار ….. ولا التي بدد بعضهم شيئا من بقاياها ، وضبب بعضهم الآخر الرؤية السليمة عوض أن نوفي حق كل من أسس لذاكرة هذه المدينة المعطاء ، ما منحنا الانصات لموال جميل فيه جدة ينبعث من بعيد وقد اخترق تاريخا فارقا ، نود له أن يتجاوز حاضرا خائبا ، ونحلم به أن ينيرأفقا قاتما .