طقوس واحتفاليات شعبية من ذاكرة القصر الكبير: من الهداوة الى جيلالة

1 يوليو 2025

بقلم : ذ. محمد عزوزي

تزخر مدينة القصر الكبير بتاريخ عريق وثقافة شعبية غنية تجذرت في حياة سكانها لعقود، بل لقرون. فقد كانت المدينة، الواقعة بين ضفتي اللوكوس، ملتقى للحضارات ومجالاً خصباً لتفاعل التصوف مع الفن، والدين مع الحياة اليومية. ومن بين أبرز مظاهر هذا التفاعل برزت طقوس واحتفاليات شعبية، مثل الهداوة، الجيلالة العيساوة، واحتفالات الزوايا الصوفية، التي كانت تشكل نسيجًا روحانيًا وثقافيًا خاصًا بالمدينة، قبل أن تتراجع وتختفي تدريجياً في العقود الأخيرة بفعل التغيرات الاجتماعية والثقافية.
الهداوة: الطقس والوجد
يُعتبر “الهداوة” من أقدم الفنون الطقوسية التي عرفها القصر الكبير، وكان يرتبط بشكل وثيق بعالم الروحانيات والصوفية. وينتمي الهداوة إلى طائفة هداوة العيساوية، وهم أتباع الطريقة العيساوية نسبة إلى الشيخ سيدي محمد الهادي، وقد كان حضورهم يترك أثرًا قويًا في المناسبات الدينية، خصوصًا في مواسم المولد النبوي الشريف، أو عند بعض الزوايا.

يُعرف الهداوة بإيقاعاتهم القوية المتسارعة، وضربات الدفوف، ولباسهم المميز الذي غالبًا ما يكون أبيض اللون، وكانوا يحيون الليالي في الزوايا مثل زاوية سيدي أحمد بنعجيبة. أما مشهد الجدبة (الوجد الصوفي)، فكان من أعمق اللحظات، حيث يدخل بعض المشاركين في حالة وجد صوفي يهزون فيها رؤوسهم بعنف ويصرخون بعبارات تمجيدية لله ولرسوله.

الجيلالة: إيقاع الحرب والفرح
أما الجيلالة، فقد كانت تمثل فرقة فلكلورية احتفالية ذات جذور عسكرية قديمة، إذ كان أصلها يُحاكي المواكب العسكرية والانتصارات في الحروب، وهي تعتمد على الطبول الكبيرة (الغياطة)، والمزامير، وكانت تُرافق في الأعراس أو المواسم.

في القصر الكبير، كانت فرق الجيلالة حاضرة بقوة، تتقدم مواكب العرس، وترافق “العمارية”، وتُنعش الشوارع بالإيقاع والهيبة. كما كانت تشارك في المواسم المحلية مثل موسم سيدي بوغالب أو في الاحتفالات الشعبية المرتبطة بجني المحاصيل.

ورغم ما كانت تضفيه الجلالة من حماس وجمال صوتي، فقد بدأ حضورها يتراجع مع تغير نمط الأعراس، وبداية العزوف عن الطقوس الجماعية التقليدية.

العيساوة: فن القوة والانضباط
العيساوة فن قتالي شعبي، يحمل بين طياته رمزية القوة، والانضباط، والرجولة، ويشبه إلى حد كبير ما يسمى بفنون التحطيب في مصر أو لعرضة في بعض مناطق المغرب.

في القصر الكبير، كانت العيساوة تؤدى في الساحات العامة، خصوصًا في المناسبات الكبرى أو الأعراس، حيث يتقابل رجال يحملون عصياً من خشب الزيتون، في مواجهة رمزية، تؤدى وفق إيقاع الجيلالة، وتُبرز المهارات الجسدية والسرعة والدقة.

كانت العيساوة بمثابة عرض فلكلوري تقليدي لكنه يحمل أيضًا بعدًا تربويًا، إذ يُلقن الشباب كيفية التحكم في النفس واحترام الخصم.

الزوايا ودورها الروحي والاجتماعي
شكلت الزوايا في القصر الكبير قاعدة أساسية لاحتضان هذه الطقوس، وكانت مركزًا روحيًا واجتماعيًا وثقافيًا في آنٍ واحد. ومن أبرز الزوايا التي ارتبطت بهذه التقاليد:
زاوية سيدي قاسم الخصاصي
زاوية سيدي علال القادرية
زاوية سيدي أحمد بنعجيبة
زاوية سيدي علي بوحاجة
كانت هذه الزوايا تحتضن الحضرات، والليالي الصوفية، ومجالس الذكر، حيث تتخللها أهازيج وإنشاد صوفي وتوزيع للبركة و والطعام. وكانت تلعب دورًا في نشر قيم المحبة والتسامح، وتربط بين أجيال المدينة في ذاكرة جماعية موحدة.

تراجع هذه الطقوس: من الحضور إلى الغياب.
في العقود الأخيرة، شهدت هذه الطقوس تراجعًا ملحوظًا، لعدة أسباب:

تغير الذوق الفني وهيمنة الموسيقى الحديثة.
التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي جعلت من الأعراس والمواسم مناسبات سريعة لا تتسع لهذه الطقوس.
انقراض بعض الحرفيين والمنشطين الشعبيين، وغياب الجيل الذي كان يحمل هذا التراث.

تأثير التيارات الفكرية المحافظة أو المتشددة التي تعتبر بعض هذه المظاهر بدعًا.

إن هذه الطقوس وغيرها من المظاهر الفلكلورية والروحية التي عرفها القصر الكبير ليست مجرد مظاهر احتفالية، بل هي جزء من هوية المدينة وثقافتها الشعبية. ومع تراجعها، تبرز أهمية التوثيق وجمع الروايات الشفوية، وربما إعادة إحياء بعض الطقوس في مهرجانات محلية أو ضمن برامج جمعيات ثقافية.

إن ذاكرة الشعوب لا تقاس فقط بما بقي، بل أيضًا بما اندثر وكان يشكل نبضًا للحياة ذات يوم.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading