من مذكراتي: حانة المصائر المتقاطعة شارطر، ظهيرة خميس عاصف /مارس 2008

10 يونيو 2025

بقلم : لبيب المسعدي .

دخلت حانة “محكمة الاسرة” كما يدخل الجريح إلى غرفة العمليات، بجسد متهالك وحقيبة من الاسرار تنزف ورائي. المقعد العالي عند النافذة كان عرشا لانهزامي. “نهارك سعيد! ماذا تشرب؟” سأل النادل بلهجة تشبه شفرة جراحية. أجبت: “ويسكي.. خالصا كدموع الاطفال”، اجبت وكأنني اقرأ من سفر الجنون. رفع حاجبيه: “عطشان لهذا الحد؟”. قلت واصابعي ترتجف: “لا.. عقلي هو العطشان، يبحث عن نبع في صحراء القوانين”.

بين الكاس الاولى والثالثة، صار الزجاج شاشة سينما لعالم مواز: محامون سود ينسجون خيوط النسيان باظافرهم، وفي الحديقة الصغيرة قبالتي، حيث تتنفس الزهور بحرية لا نعرفها.. رأيتهم. اطفالي! يبنون قلاعا رملية بينما تهدم قاضية مجهولة قلعتنا الاسمنتية. يا لسخرية القدر! هم يلعبون بالزهور ولا يعلمون ان القضاء يلعب بمصائرهم كما يقلب تاجر العبيد صحائف المزاد.

خرجت كهارب من سجن جسده. سيجارتي الاولى منذ احدى عشر شهرا اشتعلت كشهقة اخيرة. هواء مارس البارد لف وجهي ككف غامضة. فجأة.. خطوات صغيرة تقترب كنبضات قلب منسية: “بابا!” صرخت ابنتي الكبرى وكأنها تمزق ستار الصمت. اما ابني.. فظل واقفا كتمثال صغير، نار زرقاء في عينيه تشي بغضب اعجمي. احتضنتهما حتى سمعت عظامي تصرخ: “اقتربا يا ملائكتي! فالعناق هنا عملة نادرة”. ثم جاء الصوت القاطع: “تعالا حالا!”.. صوت امهم الذي يحمل برودة مفاتيح السجن. عدت إلى الحانة ككلب ضال يبحث عن عظام ذاكرته.

“كفى بكاءا!” قال النادل وهو يملأ كاسي الرابع. قلت مبتسما كالمشنوق: “هل رايت يوما دموعا تضحك؟ انها لا تبكي.. تسخر من سذاجة البشر الذين يظنون ان المحاكم ترقع القلوب”. طلبت رفع الموسيقى، فانهمرت نغمات “avec le temps ” كخيط ذهبي في نسيج بال. “تعرفها؟” سأل. اجبت وانا اغرق في الكاس: “نعم.. كانت تعزف يوم تزوجنا. كانت الحياة فيلما فرنسيا ساذجا آنذاك”.

اشرئب عنقي من النافذة نحو المحكمة: “الطلاق؟”. “كيف عرفت؟”. ضحك وهو يلمع الكؤوس: “في هذه الحانة، الرجال المطلقون هم زبائنئي الدائمون. انا بائع المسكنات المؤقتة”. قلبت كاسي: “اسمي لبيب”. “لا la bible ؟ مثل الكتاب المقدس؟” قال مازحا. “لا.. لبيب بمعنى حبيب “. قلت :لا بمعنى الذكي أو المستنير. استرسل: “فهل انت ذكي؟” سأل بسخرية ترسمها تجاعيد وجهه. اجبت وانا ارقب خيال اطفالي في النافذة: “الذكاء وهم كبير يا صديقي. لو كنت ذكيا لما ظننت ان الحب عقد يسجل في المحكمة، ولما ظننت ان الابناء غنائم حرب، ولما جئت إلى حانة يعتلي صاحبها منصة الحكمة بانف احمر قبيح كأنفك !”.

حكيت له عن جلسة الصلح: كيف وقفت هناك كشاهد دفاع عن اشباح. زوجتي السابقة القت كلماتها كسكاكين، والقاضية تنظر الينا كحارس سجن يوزع الادوار. لم اناقش.. فقط همست: “اقبلوا اتهاماتها كحقيقة مطلقة.. فليس للرجل في محاكمكم دليل على نقاء نيته. التبرير حين تكون بريئا هو ادانة مبطنة”. “Se justifier quand on es pas coupable, c’est s’accuser ثم خرجت لان الجدران بدات تضيق بالحقيقة.

“خسرت كل شيء” قالها النادل كحكم نهائي. ضحكت كالمجنون: “الطلاق ليس معركة يا صاحبي، انه زلزال يدفن الجميع تحت الانقاض. في ثقافتنا، لا ينتهي بمرسوم قضائي.. يتحول إلى سوق للشتائم: يشتمون جدك السابع، وعصافيرك التي ربيتها، وحتى الاناء الفخاري الذي شربت منه طفلا!”. قدم لي كاسا هدية قائلا: “هذا من مال المطلقين السعداء!”. شكرته وفتحت هاتفي.. غيرت اسمها من “زوجتي” إلى “Ex-femme”. اريته الشاشة فقال: “هذا اول الطريق!”.

في تلك اللحظة، بين نغمات Léo ferré وعبق الويسكي، ادركت:
– المحاكم لا تطلق الزوجين.. تطلق الاحلام من سجن الواقع.
– الابناء ليسوا شهودا.. هم اسرى حرب لم يختاروها.
– الحانات معابد الغرباء، حيث نعترف للخمرة بما نخفيه عن الصلاة.

غادرت والحانة تعج باشباح مثلي.. كل يحمل قصة وشنطة اوراق. عند الباب، التقطت زهرة ذابلة من الحديقة.. ربما اخر هدية اقدمها لطفلي قبل ان يصبح لقائي بهما “جلسة صلح” اخرى.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading