خديجة طنانة: التشكيل بجرأة أنثوية

7 يونيو 2025

بقلم: يوسف سعدون – فنان تشكيلي ومهتم بالجماليات.

في يوم الجمعة 16 ماي 2025، شهد رواق “دار دار” بمدينة طنجة افتتاح المعرض الفردي الجديد للفنانة خديجة طنانة، في حدث فني جمع أسماء بارزة من عالم الفن والنقد، وجمهورًا متعطشًا للجماليات المتحررة التي لا تساوم على الحرية. كان الحضور المكثف تعبيرًا حيًا عن الاهتمام المتزايد بتجربة طنانة، وعن اعتراف رمزي بمكانتها كأيقونة نسوية ومبدعة جريئة داخل المشهد التشكيلي المغربي.
عرضت طنانة في هذا المعرض أحدث أعمالها، التي تتسم بجرأة مميزة في الاشتغال على تيمات الجسد. من خلال تقنيات مختلطة أبدعت فيها، تحولت كل لوحة إلى فضاء للتأمل والاضطراب، مشيرة إلى نضج بصري وفكري لا يقبل الترويض، ولا يساوم على حرية التعبير. هذه الأعمال تؤكد أن خطابها الجمالي لا يزال يكتب بحروف الثورة والتمرد، بلغة تخترق الأعماق.
لكن معرض طنجة ليس محطة عرض عادية، بل هو لحظة تتويج لمسار طويل ملئ بالنضال المدني، والالتزام الثقافي، والتجريب الفني. مسار فريد من نوعه، سنحاول تقصي محطاته الرئيسية.
من العمل السياسي إلى الممارسة الفنية: مسار محفوف بالأسئلة
انطلقت خديجة طنانة من بوابة المسؤولية السياسية، حيث شغلت نائبة رئيس المجلس البلدي لمدينة فاس بداية التسعينيات، وترأست اللجنة الثقافية. وظفت موقعها هذا بعين فنية ثاقبة للنهوض بالفعاليات الثقافية، ومن أبرز إنجازاتها تنظيم معرض الكتابة النسائية، الذي جمع الكلمة بالصورة، وسلط الضوء على أصوات نسائية كانت مهمشة في الهامش الثقافي الذكوري.
لكن طنانة لم تكتفِ بالممارسة السياسية فقط، بل تجاوزتها نحو الفعل التشكيلي الذي صار وسيلتها الأساسية للتعبير عن الذات والواقع. فتحت رحلتها مسارات واسعة من الثقافة، وانفتحت على أسئلة الجسد، والهوية، والحرية، والذاكرة، حيث لعبت تنقلاتها الأوروبية دورًا مهمًا في بلورة تجربتها، خصوصًا في فرنسا وإسبانيا.
الجسد كوسيط تعبيري: من العُري الرمزي إلى تعرية الواقع
في أعمالها، لا يتحول الجسد العاري إلى أداة إغراء أو توظيف نمطي، بل يصبح أداة تفكيك نقدي، ومسرحًا مفتوحًا يكشف هشاشة الإنسان والاغتراب والكبت المجتمعي والسياسي. تستثمر طنانة العُري لا بوصفه مجرد نزع للثياب، بل كتعرية رمزية للواقع، حيث يتحول الجسد الأنثوي إلى مرآة تكشف زيف الخطابات السائدة.
لوحاتها تتسم بأجساد هشة، مشوهة عمدًا، منفلتة من الأشكال الهندسية الصارمة، مرسومة بألوان ساخنة أو غامضة، تتأرجح بين التجريد والإيحاء. الأجساد ليست كاملة أو مثالية، بل كيانات معنفة تاريخيًا بالرقابة والاختناق.
وفي هذا السياق، أثارت لوحة بعنوان “كماسوترا” جدلاً واسعًا سنة 2018، حين مُنعت من العرض في متحف الفن المعاصر بمدينة تطوان. هذا المنع، رغم مرارته، لم يكن إلا دليلاً صارخًا على قدرة فن طنانة على هزّ البنى المحافظة وفضح تناقضاتها الرمزية، مما يؤكد أن الفن عندها ليس مجرد رؤية جمالية، بل فعل مقاومة.
مؤسسة خديجة طنانة: الفن كمنصة حرّة
ولأن طنانة لا تفصل بين الممارسة الفنية والانخراط الثقافي، أسست مؤخرًا مؤسسة تحمل اسمها للثقافة والفنون، فضاء مستقلًا يحتضن التجارب الجادة، يدعم الفنانين الشباب، ويشجع النساء على التعبير الجسدي والفني. تسعى المؤسسة كذلك لإحياء فكرة معرض الكتابة النسائية ضمن أفق ثقافي متجدد ومتقاطع.
وفي إطار الانفتاح على مختلف أصناف التعبير الفني والثقافي، تنظم المؤسسة يوم 14 يونيو 2025 برنامجًا متكاملاً يتضمن عرض شريط وثائقي عن المؤسسة، إلى جانب معرض تشكيلي جماعي بمشاركة محاسن الأحرش، داليدا بن الشفاج، يوسف سعدون، ومصطفى اليسفي. يتخلل البرنامج قراءات شعرية للشاعرة أمل الأخضر والشاعر مخلص الصغير، وأمسية موسيقية يحييها الفنان هشام الزبيري، ليغمر الحضور في جو متكامل من الفنون المتنوعة.
وفي تتويج لهذه الفعاليات، يُختتم برنامج المؤسسة بندوة حوارية يوم السبت 21 يونيو 2025، تستضيف نقادًا وفنانين من مختلف الخلفيات، لفتح نقاشات جادة حول واقع التشكيل بمدينة تطوان، المدينة ذات التراث الفني العريق التي تواجه تحديات معاصرة في مسارها الفني.
خديجة طنانة ليست مجرد فنانة تشكيليّة؛ هي صوت امرأة جريئة تواجه التقاليد، تتحدى الأعراف، وتسعى عبر فنها إلى فضح الواقع وتقديم رؤى جديدة. هي رمز للتمرد الفني والحرية التعبيرية في المغرب، ومسيرتها المستمرة تذكرنا دومًا بأن الفن الحقيقي لا يخضع، بل يحرر.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading