
الخليل القدميري :
شاهدتك لآخر مرة من نافذة زجاجية وأنت بين الحياة والموت بغرفة الإنعاش في إحدى المصحات الخاصة بإحدى المدن الكبرى. حاولت أن أزورك قبل ذلك في بيتك عدة مرات، ولكنني كنت أصطدم بباب البيت موصداً ولا أحد يرد على طرقاتي أو يدلني على ما آلت إليه حالتك بعد موت زوجك وابنتك الكبرى وهجرة ابنيْك إلى الخارج.
شاهدتك وأنت في غيبوبة تامة تصارعين الموت في إباء وغياب تام لأي مساعدة طبية. ذهبت إلى الإدارة وأعلنت عن حالتك، فلم يثر ذلك سوى اشمئزاز العاملين بالمصحة، فسارعوا بإسدال الستائر على النافذة الزجاجية وحجبوا عني رؤيتك.
حاولت لقاء إحدى بناتك، لكنها اختلقت أعذارا كثيرة لتتجنب محادثتي، ربما متأثرة بجروح خلفها الماضي بيننا، وهي غير دارية بما أٌكنّه لك، أنت بالضبط، من احترام وتقدير لمواقفك الشجاعة والثابتة واستعدادك الدائم للتضحية من أجل الآخرين.
لم تخرج الشمس من مخبئها يوم رحيلك، تاركة للغيوم والرياح والأمطار فرصة للتعبير بطريقتها عن غضبها وحزنها الدفين وهي تودعك إلى ضفة الوجود الأخرى في خشوع وإجلال.
لا زلت أذكرك في مدينتك الشاطئية الصغيرة، وأنت شابة حسناء، بجلباب أزرق، وشعر أسود مضفور إلى الخلف، يميزك لون بشرتك البيضاء الذي يتحول إلى لون وردي زاهٍ كلما أطلت من وجهك ابتسامة جميلة، وأشعّ نور عينيك الزرقاوين الزاهيتين. بقي جمالك على حاله وأنت في غرفة الإنعاش، كأنك تنعمين بنوم هادئ ولست في طور احتضار مُفْضٍ إلى الرحيل.