يوم صيفي قائظ

10 أغسطس 2024

ذ. ادريس حيدر : 

إن موجة الحرارة التي اجتاحت البلاد هذه الأيام ، جعلت ذاكرتي ترتد إلى سنوات خلت .
كنتُ برفقة ثلة من الأصدقاء ، نقصد النهر القريب من مدينتنا الصغيرة ، للسباحة و للبحث عن بعض لحظات المتعة ، و كذلك للتخفيف على أجسادنا من قيظ الصيف من خلال قضاء اليوم بكامله على ضفاف هذا الواد .
كان أغلب أبائنا فقراء و غير ميسورين ، و بالتالي لم نكن نفكر في قضاء العطلة في البحر ، بل لم تكن لهم الإمكانيات المالية لقضاء العطلة السنوية في مدينة بحرية .
و كان الأطفال أبناء الأسر الميسورة ، يرحلون بمجرد حلول فصل الصيف إلى الضيعات التي يملكها آباءهم و المحاذية لنهر ” اللوكوس ” ، بحثا عن الرطوبة و إنعاشا لأجسادهم .
كنا نتضامن مع بعضنا البعض و خاصة مع أولئك الأكثر فقرا منا ، و الذين كانوا يشتغلون في حر الصيف في الأفران التي تُعِدُّ الأجور .
كانت معاناتهم كبيرة نظرا لحرارة الطقس و لهيب الأفران الذي كان يلفح وجوههم و أجسادهم الصغيرة و كأنهم في جهنم .
فكنا ندعوهم لقضاء يوم الجمعة ( يوم عطلتهم الأسبوعية ) لمصاحبتنا للنهر الخالد ، قصد استمتاعهم هم الآخرون بالسباحة .
كان كثير منا يخاف و يخشى ذلك الواد ، الذي حسب الشائع من الكلام ، كانت تسكنه أرواح شريرة (الجن ) ، ترفض أن يقترب منها أي أحد و إلا قتلته ، و لذلك كانت تكثر الحوادث المرتبطة بغرق الأطفال .
لكن الحقيقة هي أن النهر كان في زمن فائت ، قد طفا على بقايا بنايات عتيقة ، بُنيت في عصور مضت ، و بالتالي كان كلما غطس أحدهم و دلف إلى دهاليز إحدى البنايات ، إلا و صَعُبَ عليه الخروج منها ، فيقضى غرقا في عمق النهر .
من جهة أخرى ، كانت بعض الوحوش البشرية ، تتربص بالأطفال الصغار الذين كانوا يستمتعون بالسباحة في ذلك النهر ، من أجل الإيقاع بهم و اغتصابهم أو ممارسة الجنس عليهم بالعنف و الغلبة .
و هكذا كنا نتعمد الذهاب للنهر و نحن كُثْر ، أو نُصَاحِبُ النساء اللائي كن يترددن على الواد من أجل غسل و تصبين الأغطية و الصوف ، و كنا نمارس شغبنا الطفولي بالقرب منهن ، و نوهم الغير أننا أسرة واحدة ، من أجل الإفلات من عنف أولئك المجرمين .و المنحرفين .
كان يومنا ينقضي حوالي الساعة الخامسة مساء ، حيث نساعد النساء في جمع غسيلهن و العودة إلى الديار .
نرافقهن في حمل أثقالهن ، و نصعد برفقتهن إلى القنطرة التي تعلو النهر ، و نخطو بصحبتهن بعض الأمتار ، و عندما نطمئن على أنفسنا و أجسادنا ، ننحرف جهة الحقول و الضيعات القريبة منه ، بغية ملئ بطوننا أكلا ، بعد قضائنا يوما كاملا جائعين .
نلج تلك ” العرسات ” ، نتسلق أشجارها كالجراد ، حيث نلتهم غللها و ثمارها ، و لا نتوقف إلا بحضور حارسها الذي يرمينا بالحجارة .
نقفز و ننط منها ، و نلوذ بالفرار للنجاة بجلدنا من الضرب الذي قد يكون مبرحا من طرفه .
و كنا كلما اقتربنا من أحيائنا ، إلا و تذكر أغلبنا حصص العقاب التي كانت تنتظرنا .
و كنا نبدو للمارة و كأننا خضنا حربا ، أو تُرِكْنَا لحالنا في مكان مهجور .
وجوه متسخة ، ملابس بالية ، جروح في مختلف أطراف أجسادنا ، شعر رؤوسنا أشعث ، و بأفواه مضبوغة من كثرة أكل غلل لم تنضج بعد .
بعد حصة الجلد التي تمارس علينا من طرف آبائنا ، بهدف ردعنا و تخويفنا من العودة للنهر ثانية .
و بالليل ، ننام ملئ جفوننا بأجساد منهكة ، نبتسم بين الفينة و الأخرى و نحن نستمتع بأحلامنا ، بعد قضائنا يوما صيفيا قائظا على ضفاف نهر” اللوكوس ” القريب من مدينتنا القديمة و العتيقة و الصغيرة .

انتهى /.

تشكيل : إدريس حيدر .

 

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading