ذ. ادريس حيدر :
إن موجة الحرارة التي اجتاحت البلاد هذه الأيام ، جعلت ذاكرتي ترتد إلى سنوات خلت .
كنتُ برفقة ثلة من الأصدقاء ، نقصد النهر القريب من مدينتنا الصغيرة ، للسباحة و للبحث عن بعض لحظات المتعة ، و كذلك للتخفيف على أجسادنا من قيظ الصيف من خلال قضاء اليوم بكامله على ضفاف هذا الواد .
كان أغلب أبائنا فقراء و غير ميسورين ، و بالتالي لم نكن نفكر في قضاء العطلة في البحر ، بل لم تكن لهم الإمكانيات المالية لقضاء العطلة السنوية في مدينة بحرية .
و كان الأطفال أبناء الأسر الميسورة ، يرحلون بمجرد حلول فصل الصيف إلى الضيعات التي يملكها آباءهم و المحاذية لنهر ” اللوكوس ” ، بحثا عن الرطوبة و إنعاشا لأجسادهم .
كنا نتضامن مع بعضنا البعض و خاصة مع أولئك الأكثر فقرا منا ، و الذين كانوا يشتغلون في حر الصيف في الأفران التي تُعِدُّ الأجور .
كانت معاناتهم كبيرة نظرا لحرارة الطقس و لهيب الأفران الذي كان يلفح وجوههم و أجسادهم الصغيرة و كأنهم في جهنم .
فكنا ندعوهم لقضاء يوم الجمعة ( يوم عطلتهم الأسبوعية ) لمصاحبتنا للنهر الخالد ، قصد استمتاعهم هم الآخرون بالسباحة .
كان كثير منا يخاف و يخشى ذلك الواد ، الذي حسب الشائع من الكلام ، كانت تسكنه أرواح شريرة (الجن ) ، ترفض أن يقترب منها أي أحد و إلا قتلته ، و لذلك كانت تكثر الحوادث المرتبطة بغرق الأطفال .
لكن الحقيقة هي أن النهر كان في زمن فائت ، قد طفا على بقايا بنايات عتيقة ، بُنيت في عصور مضت ، و بالتالي كان كلما غطس أحدهم و دلف إلى دهاليز إحدى البنايات ، إلا و صَعُبَ عليه الخروج منها ، فيقضى غرقا في عمق النهر .
من جهة أخرى ، كانت بعض الوحوش البشرية ، تتربص بالأطفال الصغار الذين كانوا يستمتعون بالسباحة في ذلك النهر ، من أجل الإيقاع بهم و اغتصابهم أو ممارسة الجنس عليهم بالعنف و الغلبة .
و هكذا كنا نتعمد الذهاب للنهر و نحن كُثْر ، أو نُصَاحِبُ النساء اللائي كن يترددن على الواد من أجل غسل و تصبين الأغطية و الصوف ، و كنا نمارس شغبنا الطفولي بالقرب منهن ، و نوهم الغير أننا أسرة واحدة ، من أجل الإفلات من عنف أولئك المجرمين .و المنحرفين .
كان يومنا ينقضي حوالي الساعة الخامسة مساء ، حيث نساعد النساء في جمع غسيلهن و العودة إلى الديار .
نرافقهن في حمل أثقالهن ، و نصعد برفقتهن إلى القنطرة التي تعلو النهر ، و نخطو بصحبتهن بعض الأمتار ، و عندما نطمئن على أنفسنا و أجسادنا ، ننحرف جهة الحقول و الضيعات القريبة منه ، بغية ملئ بطوننا أكلا ، بعد قضائنا يوما كاملا جائعين .
نلج تلك ” العرسات ” ، نتسلق أشجارها كالجراد ، حيث نلتهم غللها و ثمارها ، و لا نتوقف إلا بحضور حارسها الذي يرمينا بالحجارة .
نقفز و ننط منها ، و نلوذ بالفرار للنجاة بجلدنا من الضرب الذي قد يكون مبرحا من طرفه .
و كنا كلما اقتربنا من أحيائنا ، إلا و تذكر أغلبنا حصص العقاب التي كانت تنتظرنا .
و كنا نبدو للمارة و كأننا خضنا حربا ، أو تُرِكْنَا لحالنا في مكان مهجور .
وجوه متسخة ، ملابس بالية ، جروح في مختلف أطراف أجسادنا ، شعر رؤوسنا أشعث ، و بأفواه مضبوغة من كثرة أكل غلل لم تنضج بعد .
بعد حصة الجلد التي تمارس علينا من طرف آبائنا ، بهدف ردعنا و تخويفنا من العودة للنهر ثانية .
و بالليل ، ننام ملئ جفوننا بأجساد منهكة ، نبتسم بين الفينة و الأخرى و نحن نستمتع بأحلامنا ، بعد قضائنا يوما صيفيا قائظا على ضفاف نهر” اللوكوس ” القريب من مدينتنا القديمة و العتيقة و الصغيرة .
انتهى /.
تشكيل : إدريس حيدر .