ذ . ادريس حيدر :
حلت حافلة التليفزيون الإسباني بالحي الشعبي الذي كانت أسرتي تقطنه .
تجمع الجيران و المارة أمام المنزل ، فيما الأطفال تحلقوا حولها و طوّقوها ، في محاولة من الجميع لمعرفة سر حضور :” النصارى ” إلى حي شعبي و زقاق ضيق .
قضى طاقم البرنامج مصحوبا بآلياته اليوم كله في منزلنا و هم يصورون تلك الحلقة من برنامج :” القبلة” .
كانت المرحومة والدتي تتصدر الجلسة و نحن أبناءها نحيط بها .
كانت لحظات ممتعة و مفيدة ، و كان يشرف عليها الأديب العالمي و الألمعي :” ” خوان غويتسولو ” .
و كم كان متألقا و هو يقدم للحلقة بلغة شاعرية جد جميلة ، و بمشاعر إنسانية رفيعة ، مثمنا بين الفينة و الأخرى مجهودات و تضحيات المرحومة من أجل تعليم و تدريس أبناءها الستة و بإمكانيات بسيطة .
و عند انتهاء البرنامج ، تقدم مخرجه نحو المرحومة أمي بمعية الأديب و معد البرنامج ، و شكرها على المشاركة الإيجابية فيه ، و قدم لها ظرفا ، كان به مبلغ مالي جد مهم تعويضا من البرنامج على الإزعاج الذي تسببا فيه بمعية الطاقم المرافق لهما ، إلا أنها رفضت ذلك الأعطية ، بالرغم من كونها كانت في الحقيقة في أمس الحاجة إليها . مما اضطرّ معه المخرج إلى أن يحرضها على أخذه ، و خاطبها بغير قليل من الجدية قائلا :
” سيدتي ، أنا لا أقدم لكِ صدقة أو مالا لا تستحقينه ، بل إن هذا المبلغ مبرمج سلفا من إدارة التلفزيون الإسباني ، لكل مستقبليه و مساعديه على إنجاز البرنامج ، و بالتالي فهو جزء من ميزانيته و أبلغكِ أنه و في حالة استمرار رفضك تسلم هذا المبلغ من المال ، فسوف أُنفقه و من معي في الأكل و الشراب و الحال أنه لا حق لنا فيه و لا نستحقه ، لأنني أتقاضى راتبا محترما و كذلك كل الفريق .”
ردت عيه المرحومة أمي :
” سيدي ، البرنامج الذي فرغتم للتو من تصويره ، ينبش في تلاقح الحضارات من خلال الأشخاص المقيمين لظروف خاصة في أوطان ليس لهم ، و إبراز مدى تأثرهم بحضارات الغير ، و بقيمها الفضلى .”
و أضافت :
” و أنا إن كنتُ قد تأثرت و تعلمتُ و استفدتُ من التقاليد و الموروث اللامادي المغربي ، أشياء كثيرة ، فمِنْهَا أن من يأتي منزلك كيفما كانت الظروف ، فهو ضيفك ويتواجد في حرمتك ، يجب أن تحسن وفادته و لاتأخذ منه شيئا .
و هذا تجل من تجليات الحضارة المغربية الإسلامية الضاربة جذورها في التاريخ . ”
بعد انتهائها من تبرير الأسباب التي جعلتها ترفض الدعم المالي المخصص لها من طرف البرنامج ، تقدم نحوها الأديب :” غويتسولو ” و خاطبها بهدوء و لطف :
” أنت، سيدتي امرأة شامخة …”
انتهى/.