الشامخة …(02)

15 يونيو 2024

ذ . ادريس حيدر : 

حلت حافلة التليفزيون الإسباني بالحي الشعبي الذي كانت أسرتي تقطنه .
تجمع الجيران و المارة أمام المنزل ، فيما الأطفال تحلقوا حولها و طوّقوها ، في محاولة من الجميع لمعرفة سر حضور :” النصارى ” إلى حي شعبي و زقاق ضيق .
قضى طاقم البرنامج مصحوبا بآلياته اليوم كله في منزلنا و هم يصورون تلك الحلقة من برنامج :” القبلة” .
كانت المرحومة والدتي تتصدر الجلسة و نحن أبناءها نحيط بها .
كانت لحظات ممتعة و مفيدة ، و كان يشرف عليها الأديب العالمي و الألمعي :” ” خوان غويتسولو ” .
و كم كان متألقا و هو يقدم للحلقة بلغة شاعرية جد جميلة ، و بمشاعر إنسانية رفيعة ، مثمنا بين الفينة و الأخرى مجهودات و تضحيات المرحومة من أجل تعليم و تدريس أبناءها الستة و بإمكانيات بسيطة .
و عند انتهاء البرنامج ، تقدم مخرجه نحو المرحومة أمي بمعية الأديب و معد البرنامج ، و شكرها على المشاركة الإيجابية فيه ، و قدم لها ظرفا ، كان به مبلغ مالي جد مهم تعويضا من البرنامج على الإزعاج الذي تسببا فيه بمعية الطاقم المرافق لهما ، إلا أنها رفضت ذلك الأعطية ، بالرغم من كونها كانت في الحقيقة في أمس الحاجة إليها . مما اضطرّ معه المخرج إلى أن يحرضها على أخذه ، و خاطبها بغير قليل من الجدية قائلا :
” سيدتي ، أنا لا أقدم لكِ صدقة أو مالا لا تستحقينه ، بل إن هذا المبلغ مبرمج سلفا من إدارة التلفزيون الإسباني ، لكل مستقبليه و مساعديه على إنجاز البرنامج ، و بالتالي فهو جزء من ميزانيته و أبلغكِ أنه و في حالة استمرار رفضك تسلم هذا المبلغ من المال ، فسوف أُنفقه و من معي في الأكل و الشراب و الحال أنه لا حق لنا فيه و لا نستحقه ، لأنني أتقاضى راتبا محترما و كذلك كل الفريق .”
ردت عيه المرحومة أمي :
” سيدي ، البرنامج الذي فرغتم للتو من تصويره ، ينبش في تلاقح الحضارات من خلال الأشخاص المقيمين لظروف خاصة في أوطان ليس لهم ، و إبراز مدى تأثرهم بحضارات الغير ، و بقيمها الفضلى .”
و أضافت :
” و أنا إن كنتُ قد تأثرت و تعلمتُ و استفدتُ من التقاليد و الموروث اللامادي المغربي ، أشياء كثيرة ، فمِنْهَا أن من يأتي منزلك كيفما كانت الظروف ، فهو ضيفك ويتواجد في حرمتك ، يجب أن تحسن وفادته و لاتأخذ منه شيئا .
و هذا تجل من تجليات الحضارة المغربية الإسلامية الضاربة جذورها في التاريخ . ”
بعد انتهائها من تبرير الأسباب التي جعلتها ترفض الدعم المالي المخصص لها من طرف البرنامج ، تقدم نحوها الأديب :” غويتسولو ” و خاطبها بهدوء و لطف :
” أنت، سيدتي امرأة شامخة …”

انتهى/.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading