
محمد أكرم الغرباوي
المرور بالقرب من مقر الغرفة الصناعية نزولا من الثانوية المحمدية كان يثيره مدخل باب بيافطة بالأبيض وخط أزرق أنيق ، لمعهد صغير يعنى بتعليم الرقن على الآلة الكاتبة . هذا المكان كان يجانب مكاتب إدارية مصفوفة على بعد أمتار منه و مقر المحكمة الإبتدائية و أخرى كنا نعرفها بإسم المحكمة الشرعية .
السير بقرب هذه الأخيرة بشارع مسجد الفتح ، شبيه بالسير في ممر إداري أرضي . محلات الكتابة العمومية على جانبين متقابلين ، الأعوان / المفوضون القضائيون . العدول . المحامون … مكاتب أنيقة بواجهات زجاجية بداخلها زوار مرتفقون ومكاتب و حواسيب و أوراق ووثائق إدارية .
محلات قضاء الأغراض الإدارية الصرفة . و الإستشارة القانونية . هي مهنة تحتاج الكثير من الدربة و الصنعة القانونية و القراءة و تتبع المساطر والإجراءات و الوثائق و أنواعها . الكتابة العمومية كانت في بداياتها مهنة خبراء خواص . كانت لهم جلسات يومية أو شبه يومية مه رجالات القانون بالمدينة . وكانوا أكثر حرصا على سلك الطرائق و كتابة المقالات و العقود و الشكايات و الإلتزامات بأمانة و صدق و إخلاص للمهنة بدء من الفاضل المقتدر حفظه الله سيدي الحاج الغالي الذي تدرج بعد تأسيسه لأبجديات هذه المهنة وإتخاذه سلك ادإدارة التربية و التعليم مسارا آخر . ومن بعده كتاب عموميون كثر أخلصوا للمهنة كالوهراني و الجباري و الشريف الوزاني و عبد الواحد مومن و عبد الرفيع و العرابي و شحموط و الصمدي ….و آخرون كرام …
ومن المكاتب الإدارية الخاصة الأخرى التي كانت تثيرنا ، مكاتب كنا نخال أصحابها معاجم لغوية عالمية مفتوحة . و نحن نقرأ على أبواب واجهات محلاتهم . ” ترجمان محلف” لدى القنصلية الإسبانية و الفرنسية و الإنجليزية … كان المرحوم برحمة الله الحاج الهواري الرجل النزيه الذي كانت تصطف عنده طوابير المتقاعدين و المتقاعدات بهولاندا و جبل طارق و اسبانيا . وكذا المهاجرون الشرعيون من أجل ترجمة الوثائق و الإستشارة القانونية . كان مكتبه أنيقا كشخصه الكريم رحمه الله . و على مقربة منه كان الفاضل المرحوم العمراني بزيه العصري و ربطة عنقه الرقيقة . كان يقف كأرستقراطي مثقف . كان يحيي التلاميذ ويدعوهم للكد و النجاح كلما مروا من مكتبه حيت إعدادية المنصور الذهبي .
و كذا المرحوم الهواري بالقرب من استوديو بنونة وآخرون.
ومن المكاتب المبهرة أيضا التي كانت تجعلنا نقف عندها لوقت طويل . فنستلهم أسرار الخطوط و التأمل الدقيف . و الدقة في إستعمال القلم . مكتب المرحوم المصمم و المهندس المدني الطوبغراف المرحوم الأستاذ الفاضل ” فراجي الحنبلي ” كان ينظر إلينا في صمت و هدوء و إبتسامة مشرقة ثم يكمل عمله . بزيه الأنيق و قامته الطويلة السمراء بلون أهل الجنوب الكرام و نظارته السميكة كان يقف أمام لوحة ناصعة البياض كبيرة الحجم . كان ورقها الكبير يثير فضولنا من أين يحصل عليه !؟. وكذا أقلامه الرقيقة الدقيقة و تلك المساطر و الأعواد ..كنا نعتلي درجا لننعم بما يرسم . وفي كل مرة نعاود المشهد دون أن يمل منا .
كانت مكاتب إدارة القرب تستقبل المواطنين ولاتزال بمدينتي . أذكر يوم فكرت إمتهان هذه الخدمة ذات يوم ، أحسست برهبة ، سرعان ماتلاشت بعد دربة ووتعلم ودراسة . لكن بعض أسرارها لا يتعلم ولا يكتسب . هو مراس يومي أساسه ثقة الناس و التملك من أسرار وحكمة الأمانة و الأمانات و إصلاح ذات البين أكثر من الربح المادي. – ماهو ماكان يقوم بشهادة حق الفاضل الحاج الغالي اذ يصلح بين الناس بعيدا عن التقاضي- .
في مدينة صغيرة ، كبيرة بشخوصها الخلص لأدوارهم و مهامهم . و محلاتها المختلفة الأنيقة . كان الإنبهار الطفولي سهلا ليسكن ذاكرتنا أعمارا .
محمد أكرم الغرباوي
باحث في الفنون التعبيرية
كاتب ومخرج مسرحي