راحيل

10 يوليو 2023

_ حنان قدامة :

راحيل ………….كان الموسمُ الدّراسيُّ على الأبوابِ حينما اصطَحبتني والدتي إلى منزل “الجارة ” “راحيل “من أجل أن تَخيطَ لي الوِزَرة المَدرسيّة.
كُنتُ أوّل مرّة ألجُ ذاك المَنزل حيثُ تُقيمُ “راحيل ” صُحبَةَ شَقيقتِها الصُّغرى “إستير” ،وَجدتُهُ مُختلِفا نِسبياً عن منِزلنا ومنزلِ جيراننا المُسلمين ،أثارت انتباهي الرُّقوقُ المُعلّقةُ على أبواب الغُرف، بما فيها الصّالون الذي توشّى بمفارش مُطرَّزةِ زاهية الألوان وشَمعدانِ كبير موضُوع ِبعناية فوق طاولة خشبية أُحيطَت بها كؤوس من النُّحاس الأصفر والأحمر .
لَم أُشبِع فضولي في التأمل والاطّلاع على باقي تفاصِيلِ المنزل ،فقد طَلبَت منّي “راحيل ” ــ بلهجة مغربية مُنكسِرة ــ الوُقوفَ لتأخُذَ مَقاسي، بمهارة ورشاقة تمَّ ذلك ،وبينما أنا مُنشغلةٌ بتَتبُّع مُسلسل مُفاوضاتِ أمّي و”راحيل “حول الثّمنِ عبقَت الغُرفةُ بطِيبِ “السَّخينة ” المحمُولة والمُقدّمَة إلينا في صُحون صغيرة من طرف ” إستير” . بدا عليّ تردّدٌ كبيرٌ في التهام حِصَّتي من الأُكلة التي تحرّشَ بي مذاقُها الطّيِّب ،لم يَخفَ تردُّدي على “راحيل” فبادرتني بالخطاب مُبتسمةً :
ـــ لا تقلقي ،كُلِيها هي كُوشر، هي حلال .
رغم تأكيدات “راحيل ” ظلّ تردُّدي يسكُنُني ، لم يُغادِرني إلا بعد أن وصلتني فتوى الإباحة من عيون أُمّي، لحظتَها حمدتُ الله على ذلك، فالسّخينة كانت لذيذةً جدّا .
بعد أسبوعَين احتضنَنِي منزلُ “راحيل” من جديد ،قصدتُهُ من أجل أخذ وزرتي الوردية اللّون ، دعتني مُضيفتي إلى الجلوس والانتظار قليلا حتى تُكمل َرتقَ أزرار الوزرة . يومها كان السّروُر باديا على مُحيّاها ،ابتسمتُ لها وأنا أجدُها تتماهى مع الأغنية التي كان ينبعثُ صداها من المُسجِّلة ، تُدندن بمُقدّمتها الغنائية . . . “بابا صالَح..وين الكلمة ” . . .
ترَكَتها عينايَ تبحثُ عن كلمة “بابا صالَح” لِتنشَغلَ هي الأُخرى بالبحث عن ــ وين ــ السّخينة التي تملّكَني هَواها والتي أخلَفَت موعدَها معي ذاك المساء .
توطّدت علاقتي” براحيل” فيما بعد ،كنتُ أصادِفُها دوما أثناء ذهابي وإيّابي من المدرسة وهي مُنهمٍكة ــ على عتبة بيتها ــ في أشغالها اليدوية “فن التريكُو/الكرُوشيه” .
ذات زوال من يوم السّبت وأنا عائدةٌ من المدرسة لوَّحَت لي “راحيل “بيديها ،أقبلتُ عليها، فإذا بها تُسلّمُني آنية رجتني تسخين طعامها في منزلنا، امتثلت للرّجاء ،حملتها إلى
والدتي و باشرتُها بالقَول .
ـــــ لقد نفذَ مخزونُ قنينة غاز”راحيل ”
بابتسامة عريضة عقّبَت على كلامي :
ـــ ليس الأمُر كما تظنّين ،الأمرُ مُرتبطٌ بيوم السّبت ، هو يوم راحة عند اليهود لذلك فهم يُحرّمون على أنفسٍهم إيقادَ النار وإشعالَها في المنازل .
استغرَبتُ من تعقيبِ والدتي الذي قضى على أملي في تناول “سفنج ” راحيل السّاخنِ والّلذيذ أيّام السّبت .
تواصَل استغرابي ولم ينقَطِع ، ففي يوم ربيعي من شهر أبريل كلّفتني” راحيل وإستير” بشراء عدّة شموع من عند بَقّال الحي ّ، دون أن أسالها بادرتني”راحيل ” بالكلام :
ـــ سنُوقدُ هذه الشّموع في ضريح ” الرّبِي يهوذا الجبلي ”
كُنتُ أول مرة يَطرقُ سمعي هذا الاسم ،لم أهتم لذلك وتابعت حديثي مع مُحدّثتِي:
ــ ستغادران إذن القصر الكبير .
بزَهو وثِقة أجابَتني :ـ
ـــ لن نُغادَر القصَر الكبير فضريح ّالربي “يهوذا الجبلي موجود هنا، موجود في حيّ “بلعباس” .
لم أقوَ على التّعقيب ، اعترتني الدّهشةُ فانطلقت معها أجري صوب منزلنا ،هناك أتاني توضيحُ والدي وأمرُ والدتي بحمل الخُبز “المُخمّر” المصحُوب باللّبن والعسَل إلى بيت الشّقيقتين ،لم تُمهلني لأسألَها ،ساَرعت إلى تعليل الأمر قائلة ً: .
ــ اليوم يحتفلُ اليهودُ المغاربة بعيد “ميمونة”
على غير عادتي ،لم أُلبّ نداءَ فُضولي ،فلم أسأل أُمّي عن طبيعة العيد وإنّما أسرعتُ الخُطى إلى مقرّ الحفل حيثُ نفسي موعُودةٌ بأطباقٍ “راحيل ” . .
كما كان مُنتظَرا لم يخب ظنّي أكرمَت “راحيل ” وفادتي بما لذّ وطاب من حلوياتها ــ أتذكر منها حلوى مصابان الشهيرةـــ تناولتُها مع الأّختين على ضوء شّموع الشّمعدان الثّمانية وعلى أنغام موسيقى” الشكوري” المُتفرّدة .
بعد حُلول العُطلة الصيفية الطّويلة انقطعت علاقتي براحيل ، لم يَدر بخلدي أنّه سيكون انقطاعا نهائيا ،فبعد رُجوعي من الاصطياف استرعى انتباهي شبابيكُ منزلها المقفُولةُ بإحكام، طال انتظاري وقَصُر أملي في فتحها من جديد، تجّرأتُ وتحسّستُ أخبارَها من أحد أصدقائها المُقرّبين فاخبرني خبرا صادما …لقد رحلت راحيل ….رحلت ومعها أطباقُها الشّهية من المغرب مُهاجرة إلى …”.إسرائيل..”
حنان قدامة 10/07 /2023……. ….

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading