المجازفة بالزمن

31 مايو 2023

د . عبد السلام دخان :

أوكسجين الحياة في هذه القلعة الزرقاء يتبدد، وفقدانه في المحيطات مثلا يحتاج لملايين السنين لإعادة التوازن لها. جزئيات الأوكسجين والنيتروجين فقدت سرعتها وبموجب ذلك فقد الزمن بوصلته، ليصبح حلزونيا من غير توقف لأنه على السطح في المساحة ذاتها فيما يشبه” العدم الأسود”.
القلعة الزرقاء فضاء الأقنعة والمعاني المُجَانِسَةِ، ودينامية التواصل تكبل الحرية بأغلال من حرير. و التواجد المكثف هنا معناه المجازفة بالزمن. وضياع “الدازاين” أي كينونة الوجود الإنساني. وتحويل هذا الزمن إلى ذاكرة لأثر ما، سواء كان تدوينة أو تعليقا أو صورة ساخرة.
الفضاء الأزرق يحول الأثر إلى ذاكرة تتجدد كلما ولجت في دخول حسابك الخاص. فلا وجود للنسيان هنا. وغياب النسيان معناه ضياع القدرة على التخييل، وضياع القدرة على الإبداع كما لو كنا في حاجة إلى النسيان الذي لا ذاكرة له بتعبير “موريس بلانشو “Maurice Blanchot في كتابه L’écriture du désastre ترجمها إلى العربية المترجم الأكاديمي الرصين الدكتور عز الدين الشنتوف، بعنوان دال «كتابة الفاجعة»، صدر الكتاب عن دار توبقال للنشر.
الفضاء الأزرق تحول إلى ساحة للحروب، ولاغتيال القيم والحرية والاختلاف، ومصادرة الحق في الإبداع، ومصادرة حقوق الإنسان، وتنصيب قضاة جدد ومحاكم التفتيش التي تتناسل في عدد من الصفحات. الزيف هنا مظهر آخر لتبديد حضور الإنسان المشرق كما لو أننا نتجه نحو النقطة القصوى للعدمية بتعبير الفيلسوف الفرنسي الليتواني الأصل “إيمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas‏” . وضياع الإحساس بوجودي من أجل الآخر تبعا لرؤية صاحب كتاب” الزمان والآخر”. والحالة هذه فإن ضياع الشعور بلذة الحضور، معناه ضياع القيم، وتدمير النزعة الإنسانية، مادامت هوية الكائن لا تتحدد حسب ليفيناس إلا في علاقته بالغير. لا يوجد حضور إذن على وجه الإجمال بل تمثلات ناقصة لهذا الحضور.وربما كانت الرؤية الأكثر عمقا هي الأكثر اقترابا من الهاوية، لأنها تغتال الغيرية والحق في الاختلاف حين تعلن عن رغبتها في تسطيح الوعي وإنتاج مجتمع التشابه والولاء لأحادية المعنى.
هل يمتلك الإنسان –هنا والآن- وقتا للتفكير في ما يجعله يستحق تسمية هويته، واللغة، والفنون، والتاريخ المعماري، وآليات التواصل. على حافة كشف- هذا الإنسان- لحضوره السطحي، وكينونته المهددة بالمحو تحول كل شيء على نحو تراجيدي إلى منتوج يجلب السخرية، أو التعاطف، أو الإعجاب. وقد يجلب مخاطر تدمير العلاقات الإنسانية حين نفشل في ترميم الأثر الرومانسي لهذه الذات الموسومة بالإنسانية. صرح الحياة مهدد بفعل سطوة البرغماتية القاتلة، وأحادية المعنى لما يعتقد أنه الوجود المنشود. فلا غرو إن كانت الحياة بدون الأسئلة المستمدة من الماهية، وبدون الوعي بالوجود الإنساني، وبالتقنية، ومن الدهشة هشة للغاية، وشبيهة بأرض هجرها الماء لسنوات طوال. وسيصبح الإنسان لاجئا بعد فقدان إنسانيته في الواقع العيني ، ونشدانه لمتخيل رقمي، ولحياة ممكنة.
في الفضاء الأزرق ليس ليس ثمة أسلوب، ولا منهج محدد. ولا وجود لمجد شخصي، ولا مجد الكتابة أو الفن. بل تعبيرات موازية للحياة. وخلخلة المألوف هو أحد رهانات الكتابة هنا.الكتابة ليست بالمفهوم التقليدي المعبر عنه في الميثولوجيات الدينية، أو الكلاسيكيات اللغوية. الكتابة – هنا- قد تكون حتى بدون كلمات، بواسطة الأيقونات والرموز، وبواسطة الفراغ نفسه. رغبة في تجسيد تمثلات الوهم- الإلكتروني والرقمي، الذي يتبدد بمجرد الرغبة في تبديد الأثر نفسه سواء كان صورة، أو تدوينة أو حتى نقطة في تعليق ما.
أوكسجين الحياة في القلعة الزرقاء يتبدد بموازاة الغياب الشبه كلي للمساءلة. ليصبح هذا الأثر في هذا الفضاء مجرد استعراض مجاني دعائي لصالح خطاب بئيس وفاشل. والغبطة التي يشعر بها الإنسان في هذا الفضاء لا تنبع من متعة الكتابة، بل من تحويل هذه الكتابة إلى لعبة، وبالتالي فجل التدوينات في الوسائط الرقمية ليست عملا إبداعيا صرفا. إنها – في تقديري- مجرد أثر منشغل بطاقته وقدرته على خلق التفاعل. وبموجب ذلك تتحول جل التدوينات إلى مجرد تمارين لاجوهر لها. وبموجب ذلك نفقد الهوية الإنسانية التي تميزنا، نفقد الأنا حارسة الآخر بتعبير ليفناس. بيد أن موت الرغبة في العيش المشترك، واحترام الآخر، والشعور بالمسؤولية. ينتج عنه امتلاك المدون قدرة كبيرة على التدمير، وحصار الآخر، وتعذيبه، وحراسته، واغتيال حقه في التفكير والتعبير عن ما أسماه فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche في كتابه” مولد التراجيديا” ترجمة شاهر حسن عبيد، دار الحوار للنشر والتوزيع، ب” إرادة الحياة”.
إن الأمر شبيه بأنساق ما أسماه “آلان دونو Alain Deneault في كتابه “نظام التفاهة” حيث الرداءة والكراهية والانتهازية بديلا للقيم الإنسانية النبيلة، ولأن صناع” العدم الأسود” يفضلون الشر على القيم، فإنهم سيواصلون عملهم، وستتحول الحياة والأسرة والعائلة والصداقة على مجرد لعبة مرآوية، تحول بتعبير نيتشه أن تظهر أن المياه الآسنة صافية وعميقة.ما الذي يمكننا عمله؟ وما الذي يمكنني أنا فعله؟ بتعبير آلان دونو.
لن تستطيع مصفوفات التهجين، اغتيال الأثر الإنساني، وربما كان لزاما على الإنسان خوض حروب في جبهات متعددة، بغية تحرير الحياة من أوهامها القاتلة، وربما كانت هذه المهمة شبيهة بأثر التراجيديين العظام(اسخيلوس،سوفوكليس، يوربيديس). وحتما فالحياة الشبيهة بالميثولوجيا ستواصل السير نحو ممكنات العيش.

 

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading