
إعداد : عبد القادر الغزاوي :
نقلا عن كتاب : سوانح شاردة في اللغة والأدب . مقالات نقدية . المؤلف فيصل سليم التلاوي .
هل للنثر قصيدة
( اعتذار لا بد منه
أبدأ مقالتي بالاعتذار مقدما لكثير من أصدقائي الأعزاء الذين يكتبون قصيدة النثر، فأبين أن وجھة النظر التي تعرضھا ھذه المقالة ليست انتقاصا من جھودھم ، ولا تقليلا من قيمة نصوصھم الرائعة في كثير من الأحيان، ولكن لضرورة أراھا ملحة، حتى يمكن للأجيال الصاعدة من القراء أن تفرق بين الشعر والنثر، وحتى لا يختلط عليھا الأمر، ولا تستطيع
التمييز بين النوعين، خاصة قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر لما بينھما من تشابه ظاھري، لمن لا يمتلك الأذن الموسيقية التي تميز الشعر من النثر، فيصبح النوعان سيّان لدى غالبية القراء.. ولا أعتقد أن تسمية ھذه النصوص الأدبية النثرية الراقية بمسمياتھا الحقيقية ينقص شيئا من
قيمتھا، وليكن لكتاب ھذا اللون الأدبي أسوة حسنة بمحمد الماغوط، أحد أبرز رواد ھذا الفن عندما قال: ( أنا أكتب نصوصا، فليسمھا النقاد ما يشاؤون، ولن أغضب إذا قيل لي لست بشاعر، وإنما كاتب نصوص ) .
تمھيد:
قد يبدو السؤال الذي يمثله العنوان مناقضا لنفسه للوھلة الأولى، حيث أن الشعر شعر والنثر نثر، ولا يلتقيان أبدا من حيث الشكل. فالكتابة في جوھرھا تنقسم إلى نوعين رئيسين: ھما الشعر والنثر، أما الشعر فھو الكلام الموزون المقفى في تعريفه الأولي، وإن كان ھذاالتعريف قاصرا، ولا يشتمل على جمال الصورة، وصدق العاطفة، وعمق الفكرة وأصالتھا وجدتھا، ويخرج منه النظم العلمي والشعر التعليمي كألفية ابن مالك، وما شابھھا من نظم في علوم اللغة والفقه وكل الشعر التعليمي، لكنه يظل شعرا من الناحية الشكلية.
أما النثر فھو ما سوى ذلك من الكتابة المرسلة، وھو أيضا يتفرع إلى فرعين رئيسيين: النثر العلمي وھو الكتابة التي تدون بھا العلوم والمعارف لنقل المعلومات، دون تركيز على جمال الصياغة الفنية والأسلوبية، وإنما تركز على نقل المعلومة سليمة خالية من الأخطاء مؤدية للمعنى المراد فقط. أما النثر الأدبي فھو الذي يھتم بالصياغة الأدبية شكلا ومضمونا، وھو يندرج تحت فنون متعددة منھا: المسرحية والخطبة والمقالة والخاطرة والقصة الطويلة ( الرواية ) والقصة القصيرة والأقصوصة والقصة القصيرة جدا ( الومضة ) ، ويعتمد على براعة الكاتب وجودة أسلوبه في عرض نصه ضمن الفن الأدبي النثري الذي اختاره وعاء له. ولست أدري أي ضير يلحق بالكتابة الإبداعية النثرية، التي تقطر رقة وعذوبة وصدق عاطفة وجمال تصوير، إن سميت مقالة أو خاطرة أو نصا نثريا؟ وما الذي يعيبھا أو ينتقص من قيمتھا، إن نسبت إلى جنسھا وھو النثر الأدبي، وما الذي تكسبه ھذه النصوص من التسمية المتناقضة (قصيدة النثر) فھل للنثر قصيدة؟ .
إن الوزن الشعري والموسيقى العروضية ھي أول شروط القصيدة، وبدون الوزن لا يمكن أن يسمى الكلام شعرا. ومن الذي قال إن النثر ليس فيه من الجمال ما يوازي الشعر، و يتفوق عليه؟ ألم يقدمه رسول لله – صلى لله عليه و سلم- على الشعر عندما قال: ( إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة) .
فقد نسب سحر القول للبيان وقصد به النثر، ونسب الحكمة للشعر، لما فيه من إيجاز العبارة، واشتمالھا على العبرة والموعظة، وسھولة الحفظ.
وھل ما نشأنا عليه، وتربت عليه أذواقنا، وتدربنا على أن ننسج على منواله في موضوعاتنا الإنشائية الأولى أيام فتوتنا، من تقليد لرومانسية المنفلوطي في ( عبراته و نظراته ) ، ورقة جبران خليل جبران وتدفق العاطفة في كتبه: مثل ( الأجنحة المتكسرة ) و ( دمعة و ابتسامة) وغير ذلك من روائعه، يقل في روعته وجماله عن الشعر؟
لكن أصحابه لم ينسبوه للشعر، بل سموه باسمه الحقيقي نثرا أدبيا جميلا ، فما عابه ذلك ولا انتقص من مكانته، وسنعرض فيما يلي لنماذج من ھذا النثر الأدبي الذي ما ادعى قائلوه أنه شعر وإن كان أجمل من الشعر:
فھذا مقتبس من نص لجبران خليل جبران بعنوان( أغنية) من مجموعته (أغاني) ضمن
( المجموعة الكاملة) . انصت إليه يقول:
( في أعماق نفسي أغنية، لا ترتضي الألفاظ ثوبا، أغنية تقطن حبة قلبي، فلا تريد أن تسيل مع
الحبرعلى الورق، وتحيط بعواطفي كغلاف شفاف، فليست تنسكب على لساني كالرضاب.
كيف أتنھدھا وأنا أخاف عليھا من دقائق الأثير؟ ولمن أنشدھا، وقد تصدرت سكنى بيت نفسي، فأخشى عليھا من خشونة الآذان؟ ) .
ألا نجرب أن نعيد كتابتھا على طريقة قصيدة النثر، لنرى ما الذي ستضيفه إليھا ھذه الإطلالة الجديدة:
في أعماق نفسي
أغنية
لا ترتضي الألفاظ ثوبا
أغنيةتقطن حبة قلبي
فلاتريد أن تسيل
مع الحبر على الورق
وتحيط بعواطفي
كغلاف شفاف
فليست تنسكب على لساني
كالرضاب
كيف أتنھدھا
وأنا أخاف عليھا
من دقائق الأثير؟
ولمن أنشدھا؟
وقد تصدرت سكنى بيت نفسي
فأخشى عليھا
من خشونة الآذان
ھل أصبحت الآن قصيدة، وازدادت جمالا عما كانت عليه وھي نص نثري بديع؟
لست أدري؟ وأترك تقدير ذلك لكل قارئ ليقارن بين الحالتين . ) . . .
المصدر : https://ksar.es/?p=14983