بقلم : أسامة الزكاري
صدر کتاب «شهادات» عن جمعية البحث التاريخي
والاجتماعي بالقصر الكبير سنة 1996، في ما مجموعة 80 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، في محاولة
للتوثيق وللاحتفاء بذكرى أحد الأبناء البررة لمدينة القصر الكبير الذين تركوا بصمات ناصعة على المشهد الثقافي والسياسي لهذه المدينة خلال العقود الماضية. والعمل-في الأصل- تجميع للكلمات وللمواد التكريمية التي ساهمت بها ثلة من الفعاليات الثقافية بالقصر الكبير في حق الفقيد الوطني والمؤرخ المحقق الأستاذ محمد عبد السلام بوخلفة، وذلك بمناسبة الذكرى الأربعينية لوفاته، والتي أحيتها جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير يوم 6 أبريل من سنة 1996. وعموماً، يمكن القول إن الجمعية المذكورة قد أوفت جزء هاما من حق الفقيد بوخلفة تجاه مدينته التي عشقها وولع بها منذ صباه، وترجم هذا الولع وهذا العشق في أعمال
رائدة ميزت مسيرته السياسية والثقافية، سواء من خلال رئاسته للمجلس البلدي للمدينة خلال فترة ستينيات القرن الماضي، أم من خلال فعله الجمعوي باعتباره أحد الأعضاء المؤسسين لجمعية البحث التاريخي والاجتماعي، أم من خلال دراساته وإسهاماته العلمية حول تاريخ هذه المدينة وتراثها العريق والتي توجت بإصدار أول دراسة يمكن الاعتماد عليها في التوثيق لماضي المدينة
والمعنونة بـ «الطريق لمعرفة القصر الكبير».
وبالنظر لهذه الاعتبارات، فقد استحضرت مداخلات
کتاب «شهادات» ملامح متعددة ومتداخلة في سيرة
الفقيد بوخلفة، تكاملت فيها شخصية المؤرخ المنقب
والوطني الصلب والمجاهد الغيور والمثقف الرصين.
لذلك، فالكتاب يشكل شهادة حق حول تجربة غنية لرجل أعطى الكثير لمدينته، وتحول -بفضل ذلك- إلى أحد أعلامها المتميزين بنضاليتهم وبعصاميتهم وبعطائهم الثري في مجالات عدة، منها ما هو سياسي وما هو ثقافي وما هو اجتماعي، لذلك، فإن الالتفات إلى سيرة الأستاذ بوخلفة، توثيقا وتجميعا، يشكل عملا هاما لا شك وأنه يساهم في التوثيق لذاكرة مدينة القصر الكبير وفي الاحتفاء بأعلامها الخالدين، وانسجاما مع هذه الرؤية، حاولت المداخلات المدرجة في الكتاب، تغطية جوانب متكاملة في شخصية بوخلفة، وفي اهتماماته، بشكل ساهم في إلقاء الضوء على مجمل القضايا التي انشغل بها الفقيد وخلف حولها تراثا غزيرا لازال في حاجة إلى
مزيد من الجمع والضبط والتحقيق، في هذا الإطار،
توقفت كلمة الجمعية المنظمة، للتذكير بخصال الفقيد وبمبادراته النبيلة التي اختزلتها جملة من المواقف والمبادرات الرائدة للراحل بوخلفة، أهمها اكتساب قصب السبق في الاهتمام بالتعريف بماضي مدينته عقب إصداره لكتاب «الطريق لمعرفة القصر الكبير»، ودفاعه وغيرته المستميتتين عن هذه المدينة، مما جعله يمثل الذاكرة الجمعية للقصر الكبير ويجسد طموحها في الرقي والتقدم، من خلال الأفكار والمشاريع التي بلورها أثناء ترؤسه للمجلس البلدي للمدينة خلال فترة تستينيات
القرن 20. أضف إلى ذلك أن الرجل كان عفيفا في مواقفه، شجاعا في مبادراته، بليغا في انتقاداته، ونافرا من كل المظاهر الاحتفالية والتظاهرات الرسمية. ومن جهتها، قدمت سعاد الطود مساهمة باسم «جمعية الأنوار النسوية للأعمال الاجتماعية والثقافية» احتفاء منها بالراحل، وذلك في كلمة تحت عنوان «محمد بوخلفة رمز من رموز المدينة». وتوقف عبد القادر الطود الحسني لإبراز المواقف الوطنية التي امتاز بها الراحل، وكذا غيرته على مدينته التي عشقها. أما مصطفى يعلى، فجعل مساهمته تتخذ شكل رسالة في مخاطبة روح الفقيد
ومناجاتها بكل صيغ الإعجاب والحب والتقدير. وبالنسبة لمصطفى الشريف الطريبق، فاختار المساهمة بنص شعري تحت عنوان «يا راحلا في كل حس ذكره». وتوقف حسن الشريف الطريبق عند صور النقد الساخر التي امتاز بها الراحل بوخلفة، في حين قدم محمد بنخليفة كلمة وفاء معبرة عن خصال الفقيد وسجاياه. وبالنسبة لمحمد العربي أبو الوفاء، فساهم بورقة اعتبر فيها الراحل بمثابة وثيقة تاريخية حية للحركة السياسية والثقافية بمنطقة الشمال وبالمغرب كله،
وتوقف محمد العربي العسري -في مداخلته- عند أبرز
المحطات التاريخية في حياة الفقيد بوخلفة، في حين ساهم محمد العرائشي عفيف بنص شعري تحت عنوان «ما أبهج القصر قبرا»، كما ساهم عبد الإله نخشی بقراءة تقييمية هامة في كتاب «الطريق لمعرفة القصر الكبير» ميز فيها بين الأبعاد الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية للكتاب، أما الشاعر والأديب عبد الرحمان الشاوش، فناجي روح الفقيد بقصيدة شعرية عنوانها «لن تنساك القصر يا محمد». وتوقف محمد يعلى للتنويه بمستوى احترام وتقدير فعاليات القصر الكبير لكفاح الراحل ولروحه ولفكره ولسلوكه، معتبرا «أنه لا يمكن تجريد مدينة القصر الكبير من وجوهها ورموزها»، والراحل بوخلفة تحول إلى رمز خالد اختص بصورة مرجعية مثالية لدى من عايشه أو عرفه عن قرب.
ومن جهته، حيى عبد السلام الشرادي هذه الذكرى
التأبينية بكلمة مؤثرة اعتبر فيها الراحل ابنا بارا لمدينة القصر الكبير وذلك بالنظر لما عرف عنه من سجايا نبيلة ومن غيرة وطنية صادقة وجدت أصداء لها في الكثير من جوانب تراث الفقيد.
وإلى جانب هذه الشهادات والدراسات التي اهتمت
بالتوثيق لشخصية الراحل، احتوى الكتاب -كذلك- على كلمة أسرة الفقيد ألقاها ابنه هشام بوخلفة، إلى جانب ملحق من الصور الفوتوغرافية التي تؤرخ لبعض المحطات الأساسية في سيرة الراحل، وكذا نصوص رسائل التعازي التي تلقتها جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بهذه المناسبة، وهي الرسائل التي تبين مدى الامتنان الذي كان يحظى به الفقيد بوخلفة بين مجايليه وبين عموم ساكنة القصر الكبير. ولعل من بين أبرز ما ركزت عليه جل المداخلات والرسائل والشهادات، تنصيصها على الشغف
الذي امتاز به بوخلفة فيما يخص الاهتمام بماضي القصر الكبير، تجميعا للمصادر الأساسية وللوثائق الدفينة، وتحقيقا للروايات التاريخية، واستلهاما لمضامين المظان البيبليوغرافية التي اتخذت من مجالات القصر الكبير فضاء واسعا للبحث وللتنقيب وللاستذكار، وذلك في أفق ربط الماضي بالحاضر والبحث عن استرجاع البهاء المفقود لهذه المدينة، وفي هذا الجانب بالذات، تكمن أهمية إسهامات الراحل بوخلفة، إذ أن اجتهاداته تساهم في توفير المادة الخام للمؤرخين المتخصصين من أجل
الانكباب على إعادة كتابة تاريخ القصر الكبير وفق رؤى مجددة تتجاوز الأحكام النمطية التي كرستها الكتابات الكولونيالية الجاهزة وكذا التصنيفات الاستنساخية الرتيبة التي تطغى على جزء كبير من الكتابات العربية الإسلامية حول المدينة. وعلى الرغم من أن الراحل
بوخلفة لم يكن مؤرخا أكاديميا لا في التكوين ولا في
الاختصاص، فإن الفضل -كل الفضل- يعود إليه في
توجيه عمل الفعاليات المحلية المهتمة نحو التنقيب
في قضايا ماضي مدينة القصر الكبير ونحو تنظيم هذا العمل سواء في إطار اجتهادات أكاديمية فردية موزعة بين العديد من الجامعات المغربية، أم في إطار مبادرات جمعوية أشرفت جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير على تأطيرها وعلى ترجمتها في شكل ملتقيات وإصـدارات كان لها دور أساسي في تحويل الاشتغال بماضي المدينة إلى شأن عام ساهم في الكشف عن الكثير من الأوجه المشرقة للصورة العريقة لمدينة القصر الكبير، قديما وحديثا.
