جمالية التكريم

17 مايو 2023

_ بقلم : ذ. أحمد العبودي

من دواعي سعادة المرء أن يرزق أصحابا وأحبابا وأصدقاء صلحاء ناصحين، يحظى بمحبتهم ويرجو توجيهاتهم، وعند المناسبات يبادلونه المشاعر ويتقاسمونها معه مؤازرة له وتثبيتا ، وإني لمحظوظ إذ أن لي أصدقاء هذه سيماهم الثابتة، ومنهم هؤلاء الذين حضروا معي، أو قل حَضَّروا للحفل الذي نظم يوم 12 ماي 2023م ، بمناسبة إقبالي على التقاعد المهني.

خد

كانت التفاتة كريمة يلزم أن أشكر عليها، بحرارة قلبية، ثانوية وادي المخازن للتعليم الأصيل بمدينة القصر الكبير، في شخص مديرتها المقتدرة السيدة فاطمة رياني، كما وجب أن أشكر نادي الحكمة التابع للمؤسسة على تنظيمه لهذا الحفل، النادي التربوي الذي يشرف عليه أخي وصديقي الغالي الدكتور محمد البدوي مدرس مادة التربية الإسلامية والعلوم الشرعية بهذه الثانوية الصامدة.


بمجرد أن دخلت المؤسسة لفت انتباهي تلاميذ المؤسسة في اصطفاف بديع، لم يخطر ببالي قط أنهم في انتظاري، أخذ بيدي صديقي العزيز ووشحني بقلادة ورود، مطوقا بها عنقي وصدري، شعرت بخجل غير معهود مبعثه ضعفي وهواني مقارنة بما تعارف الناس والمجتمع على تكريمهم بهذا الأسلوب، أقحمني صديقي بين صفوف المتعلمين وأذن لهم بالإنشاد ترحيبا بي، على مرأى ومسمع من السادة الأساتذة الحاضرين الذين جاءوا لمشاركتي في أجواء الحفل ، شرعوا في التصفيقات حتى شعرت بالعرق يتصبب مني وأنا أحاول أن أتكلف ابتسامات متقطعة تأبي أن تنصاع لي. كدت أن أصاب بالدوار لما فوجئت في نهاية الاصطفاف بأساتذتي وأبنائي التلاميذ وهم يقدمون لي باقة ورود ويدعونني نحو صحن بتمر وحليب مرحبين بي وهاتفين .آنئذ انبعث من داخلي صوت خافت لم يسمعه سوى قلبي الخافق وهو يتساءل: حمَّلُوك ما لا تطيق وحشروك في تقليد أنت أصغر منه بكثير، لكن ليس من اللباقة أن ترفض أو تنسف تدابير ترحيب اختاره الناس وارتضوها لك على هذا المنوال التشريفي، فمن غير تعقيد اعتبر نفسك في لحظة حلم عابر من صنع أعزاء أوفياء…


كم كانت لحظة ماتعة وفرصة طيبة وتلك الوجوه الناضرة والأسماء الكريمة في القاعة تحيط بي أو تتوجه نحوي بالنظرة حينا وبالابتسامة حينا آخر، إنه من فضل الله أن أكون موضع التفاتة كريمة تزخر بالدلالات العميقة وتبعث برسائل من القيم العليا المفعمة بالنبل والمحبة والصدق والوفاء والفضل والجميل والعرفان… كانت حقا مناسبة من أقوى اللحظات في مساري المهني، فليس من السهل أن يجتمع لي هؤلاء البررة على هذا النحو فيمنحونني فرصة ساعات رائعات جنبا لجنب، يكلمونني ويهمسون لي ويسرون تارة أخرى أو يأخذون معي صورا للذكرى ويهدونني هداياهم رجاء توطيد المحبة وترسيخ جذورها…
شعرت خلالها بعجزي عن التعبير لهم عن مدى تقديري لهذه الالتفاتة الراقية، فالعبارة لم تسعفني إلا قليلا والفكرة لم تطاوعني إلا بقدر يسير، على أن قلبي ظل يلهج بأسمائهم وينبض قويا بالمحبة لهم وبالدعاء.
وإنه لمن حكمة الأقدار وحسن الطالع أن ينتهي مساري المهني بمدينتي التي نشأت فيها وترعرعت ودرست لأتمكن ،في حدود دنيا، من رد شيء من دٓيْن مدينة تاريخية معطاءة ، وبذلك جددت صلتي المهنية مع كثير من زملائي وتلاميذي الأوفياء بعد جولة ربع قرن في شرق المملكة وغربها مشتغلا في مديريات / نيابات أخرى لوزارة التربية الوطنية. والواقع أنه لم يكن لي من سبيل لأعبر عن مبلغ الثناء الذي يستحقه هؤلاء البررة سوى أن أدعو لهم بظهر الغيب وأقول لهم جزاكم الله عني خيرا.


كنت أود لو أن صديقي الغالي محمد البدوي أعفاني ولم يلزمني بإلقاء كلمة في هذا المحفل المهيب ، إذ أن كلمتي التي أعددتها في ذهني لم تعد صالحة لتصمد أمام التدخلات والكلمات التي تتابعت تترى بقوة وعنفوان؛ كل منها أحدث في نفسي أمرا غريبا لا يكاد يوصف، خاصة أن الذين تعاقبوا(أحد عشر متدخلا) هم أقرب إلي من قلبي، منهم زملائي المفتشون التربويون ومنهم مدرسو مادة التربية الإسلامية الذين أحظى بشرف تأطيرهم ومنهم تلاميذي الذين درستهم، ومنهم أصدقائي لمدة أكثر من ثلاثين سنة، ومنهم أيضا أفراد من أسرتي ، فكانت كلماتهم مع عنفوانها العاطفي عفوية وتلقائية جدا لأنهم لم يعدوها للحظة، لذلك شعرت أنها كانت تنساب على ألسنتهم صادقة ميسرة من غير تكلف سخيف ولا تزلف مقيت.
لا أخفيكم أنني تأثرت أشد ما يكون التأثر بعد إذ استمعت إلى كلمات المتدخلين وهم يطرون ضعيفا يفتقر إلى سند رب السماء ، حتى لقد انتابتني مشاعر غريبة لم أعهدها من قبل وأيقنت تحت ـ تأثير ما سمعت من ثناء عطرـ أنني لن أجيد القول والكلام في شيء ولن أوفق فيه، لقد هالني ما سمعت بل الأمر هال زوجتي نفسها إذ لم تكن على ما يبدو تقدر عمق المحبة التي تربطني بهؤلاء الأعزاء الأفذاذ، فذلك ما أعلنته لي عقب المناسبة.
لم أتمالك نفسي إلا بشق الأنفس ، فالعبارات والألفاظ كانت تهوي على قلبي غزيرة مغدقة ؛ قالوا: ” لا تخف ولا تحزن” / “صل ركعتين شكرا لله” / “عظيم” / “متواضع” / “محبوب” / تجربة للأجيال/ ” تعلمت منه قواعد العمل الإعلامي وأخلاقياته” / “وجهني فنيا واكتشف موهبتي” / “يدخل علي القسم كأنه والدي” / / “حبب لي تدريس مادة التربية الإسلامية ” / “على الوزارة أن تقيم مأتما بسبب تقاعده” / “30 سنة في التأطير خبرة كبيرة”/ “هو عمي ولكنه أبي أيضا”…ومثيلاتها مما لست أتذكره…
تلك التعبيرات الجمالية كانت مرة تقرع سمعي بقوة كأنها صوت مطرقة فولاذية تهوي على قطعة من حديد فتحدث صوتا يصم عني سمعي ومرة أخرى أشعر بها تَنْصبُّ علي كأنها وابل من ماء قطعة ثلج أفرغ علي بغتة، فتزداد نبضات قلبي ويقشعر بدني وتوشك دموعي أن تفيض من عيني، غير أنني كنت أقمعها في سر بالمدافعة كي أظهر بمظهر القوي المتوازن الذي لا يتأثر بمدح أو ثناء، أو على الأصح، حتى لا يتأثر بي من هم حولي من ذوي الدمعة القريبة. ولم انعتق من ارتباكي وتأثري إلا بعد أن رحنا نأخذ الصور الجماعية ونوقع معا روعة هذه الأمسية الماتعة…ثم جلسنا جلسة أسرية في استراحة شاي أعدتها أيادي كريمات من أستاذات أخوات يأبين دوما أن يسهرن على إخراج هذا الجانب إخراجا فنيا، ويتوارين إلى الظل في استحياء وتكتم مهيب، فحق لأسرة التربية والتعليم أن تفخر بهن وبمثيلاتهن كما حق لنا أيضا أن نثني عليهن بالثناء العطر ونشكرهن على قدر ما تسمح لنا به العبارات التي تأبي أن تكون في مستواهن الإكرامي والجودي.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading