الأستاد محمد العربي العسري رجل المبادرات الأصيلة، وحامل لواء الفعل الثقافی المجدد بحاضرة القصر الكبير، والأديب المسکون بعشق المدينة وفضاءاتها المميزة، و وجوه أناسها البسطاء وسير أعلامها ونخبها ومثقفيها .
انخرط الاستاذ العسري منذ صباه في دائرة العطاء الثقافي وظل طيلة حياته شديد الارتباط بمجالات هذا العطاء، وتوج ذلك بالأسهام في تأسيس جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، باعتبارها إطارا مدنيا وجمعويا رائداء استطاع أن يطبع المشهد الثقافي بالمدينة وبعموم منطقة الشمال بيسمه الخاص وهو الميسم الذي تشهد عليه سلسلة المنشورات المتواترة التي نجحت في توسيع دوائر الاحتفاء بعناصر التوهج في ماضي مدينة القصر الكبير، وفي تحويل الاشتغال بدرس التاريخ المحلى إلى
اهتمام جماعي في كل جهود التأصيل لمنطلقات التنمية الثقافية الراشدة.
العديدة وإسهاماته الثقافية المتميزة، وحرصه الشديد على دوام الحضور في كل المحطات الثقافية التي تعرفها المدينة، ومن خلال الشغف بالتوثيق لكل التفاصيل اليومية التي تصنع معالم التميز في حياة الفرد والجماعة في مختلف مستوياتها الرمزية والثقافية، ثم المادية والمعيشية، المتداخلة، في هذا الإطار يندرج صدور كتابه الغصون الدائية في الرسائل الإخوائية، ضمن منشورات جقعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبیر، سنة 2021، في ما مجموعة 288 من الصفحات ذات الحجم الكبير، مع عنوان فرعي يحمل سقف المضامين العامة: ملامح من الحياة الثقافية والاجتماعية في القصر الكبير من خلال باقة من رسائل نخبة من أهلها.
إعادة مد الجسور مع »أدب الرسائل« من خلال التركيز على القيم الإنسائية والثقافية والمعرفية والتاريخية التي تحتويها نصوص المراسلات من موقعها ك »شواهد« قائمة على زمن مضی، وعلى تحولات وقعت، وعلى وجوه اختفت، وعلى قيم اندثرت في زمن التواصل الرقمي والإلكتروني،أضحت الرسالة الورقية عملة نادرة، لا شك وآن مؤرخي الحركة الأدبية يقدرون جسامة تبعاتها. فبعد أن كانت هذه الرسالة في زمن ولی- مرأة تعكس حيوية الفعل الثقافي، ومجالات لتلقيح التجارب ولتقاسم المكاسب ولتخصيب العطاءات والاحتفاء الحميمي وللإبداع الجماعي و للارتقاء بالذوق الجماعي. . . أصبح التواصل
البشري تقنيا بشكل حميمي ، نمطيا بشكل استنساخي سطحيا فى تعابيره وفي استعاراته. كانت الرسالة بالأمس، موضوع اشتغال أدبي وفكري ووثيقة تشهد على واقع صاحبها وانشغالاته وهواجسه ومحيطه. كانت الرسالة مجالا لحفظ الذاكرة الفردية والجماعية، بالنظر لقدرتها على التوثيق لما لا يمكن التوثيق له فى الكتابة التاريخية العالمة. باختصار، ظلت الرسالة الورقية مجالا أثيرا، ليس فقط للتواصل اليومى بين الناس، ولكن -أساسا- لتلقيح التجارب ولتخصيب أدوات الكتابة وللارتقاء بالدوق العام، تعبيرا وتفكيرا وإبداعا. ولعل هذا ما أجمل مغزاه العام الاستاذ محمد العربى العسري، عندما قال فى كلمته التقديمية للكتاب: «والذكر عندى، إنما توثقه الكتابة ورسائل الأحباب، فى وقت عزف
الكثيرون عنها واستبدلوها بمكالمات هاتفية، و«مساجات»، واكثفى موزع البريد
بإشعارات البنك والضرائب والهاتف… على أن للرسائل الإخوانية ألقها ووهجها و
شاهدة إثبات على المحبة والوفاء بعد رحيل صاحبها، وأنس لمن يتلقاها، يذكره
بمراحل حياتية مرت، وطيف يزوره بلا استئذان، ووعاء لتجارب، وعواطف، وأخبار
وشحذ لذاكرة من يرسلها فيسترجع ما عرف.. ثم إنها تريح كاتبها، فكأنه بها أدى دينا عليه ……. وبما أن هذا الأسلوب البديع
فى كتابة الرسائل أصبح أو أوشك أن يصبح من مخلفات الماضى، ألا يجمل أن نعود قليلا إلى هذا الماضي، فنطل على بعض زواياه، ننفض عنها الغبار، ونقترب من قلوب وعقول بعض رموزه من أبناء مدينتنا ممن ساهموا في صنع تاريخها الفكري.. رحل أكثرهم وظلت رسائلهم شاهدة على مواقف، ولحظات وسويعات أخنى عليها الدهر، ليظل الحرف شاهدا على من رحل…
هى رسائل / لشواهد تقدم طبقا ثريا من المضامين ومن القيم التي صنعت معالم
الهوية الحماعية لمدينة القصر الكبير. ثقافيا واجتماعيا وسياسيا. وقد وزعها المؤلف،
بين أربعة فصول انسجاما مع رؤية اصيلة فى استنطاق المضامين وفى تسهيل
استثمار قيمها من طرف المؤرخين والباحثين المتخصصين. احتوى الفصل الأول على رسائل متبادلة بين ثلة من أهل القصر الكبير وبعض رجالات الفكر والأدب،
مثلما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر مع رسائل الغالى الطود مع عبد الخالق
الطريس، أو مع رسائل عبد الله كنون مع محمد العياشي الحمدوني، أو مع رسائل عبد الله الجراري مع عبد الله الجباري، أو مع رسائل محمد الخمار الكنوني مع محمد بنيس، أو مع رسائل محمد الحلوي إلى مصطفى الطريبقو مع مراسلات عبد القادر الطود إلى عبد السلام القيسي، أو مع رسائل عبد الرحمن بنموسى إلى عبد الرحمن الروسى الحسنى، أو مع رسائل محمد العياشى الحمدونى إلى الهاشمى الطود
وفي الفصل الثاني، اهتم المؤلف بنشر نصوص رسائل سبق وأن توصل بها من كتاب ومفكرين وباحثين ارتبطوا معه بعلاقات ثقافية وفكرية عميقة، من أمثال الأساتذة مصطفى يعلى، ومحمد العربى المساري، وعبد الكريم الطبال، والمهدي زريوح، وإدريس الضحاك، وعثمان
المنصورى، وعبد الحق المريني. وفي الفصل الثالث، نشر المؤلف نصوص مراسلات سبق وأن بعثها لبعض أصفيائه، من أمثال الأساتذة المهدي أخريف، ومحمد المغراوي، ومحمد يعلى، وخالد مشبال. وخصص المؤلف الفصل الرابع لإعادة نشر ملف خاص عن رسائل المرحوم بوسلهام أبو بكر الموجهة إلى المؤلف مع ملف خاص بمراسلات متبادلة بين الشاعرين أحمد الطود ومحمد بن قدور
الوهراني.
ولعل من عناصر القوة في هذا العمل الثمين
للأستاذ العسري، حرصه على توضيح سياق كل واحدة من المراسلات المذكورة في الكتاب، الأمر الذى أضفى قيمة علمية أكيدة على مجموع المضامين، انتبه لأبعادها
المعرفية الأصيلة الأستاذ أبو الخير الناصري، عندما قال في كلمته التقديمية
للكتاب: «لم يكتف عزيزنا العسري بنشر رسائل صديقه، ولكنه قدم لكل منها بتمهيد
مقتضب حدد فيه ظروفها، وسماتها، ومناقب كاتبها. كما وطأ لها بترجمة لصديقه
ذكر فيها ملامح من حياته وشخصيته تلميذا ورياضيا، وفاعلا سياسيا، وحكاءا ماهرا،
وإداريا، ومثقفا، وإنسانا.. مدرجا بهذه الترجمة صديقه المترجم له ضمن أعلام
المدينة الذين أفرد لهم أستاذنا كتابه المفيد، «أقلام وأعلام من القصر الكبر في
العصر الحديث». ولعمري إن هذا الضرب من ضروب الوفا، قل نظيره في زمن
الخيانة والتنمر والجحود…» (ص. 10).
وبهذه المواصفات، تتحول الرسالة الورقية إلى نافذة مشرعة أمام فعل التحليل والفحص والتأمل، ثم لاستلهام القيم الإنسانية والجمالية إلمرتبطة بالكتابة الإبداعية نثرا ونظما .هي ذاكرة جماعية تشكل خزانا لا ينضب لمعالم السمو الذي يستثمر في الحميميات الفردية ليقجر من خلالها بؤر الابداع المتجدد والرقي الحضاري في العلاقات الإنسانية وفي المواقف وفي الرؤى وفي الانتظارات