إشراقات ثقافية : وداعا يا عاشق هسبريس د. إبراهيم السولامي

15 أبريل 2023

إشراقات ثقافية
من تقديم أمينة بنونة

محمد الخمار الكنوني في الذاكرة

إعداد وتنسيق الأستاذ محمد العربي العسري

وداعا يا عاشق هسبريس
د. إبراهيم السولامي
أيها الصديق،
لم أكن أتوقع اختفاءك السريع رغم معرفتي بمعاناتك من مرض لا يرحم، لكن إرادة الله خطت لكل واحد منا أجلا لا ينقص أو يزيد، فليرحمك الله برحمته الواسعة
الحنون، فقد كنت متصل الحنين إلى الصديق الوفي، واليد الدافئة، والأذن المرهفة. كنت في عطش مستمر لعالم نقي من الزيف وحب الظهور والمنافع الخاصة.
غيابك المفاجئ عاد بذاكرتي إلى صديق آخر فقدته
يشبهك في نحولة الجسم، وألق الفكر، وذكاء الفؤاد، لم يكن شاعرا مثلك ولكنه قاص وناقد. هو مثلك، ما إن تلألأ اسمه بين المثقفين حتى اختطفه المنون بعد معاناة شديدة مع البلهارسيا، وهو مثلك لم يتجاوز العقد الرابع إلا بقليل، إنه وحيد النقاش.
فهل كتب علينا أن نقف على رصيف الميناء نودع الراحلين ونطوي الجناح على الجراح؟
عرفتك منذ أزيد من ربع قرن شاعرا وأستاذا وباحثا، وعرفتك جارا نلتقي في الحي بمدينة فاس فندير الحديث في شؤون الوطن الصغير والكبير، ونملأ الإحساس بالأسى تارة ونملأه بالضياء تارة..
عرفتك الإنسان المهموم بقضايا أمته في ثقافتها ومصيرها؛ وعرفت فيك هما كبيرا تميز بأمرين أساسيين: حباً دفيناً للعزلة والنأي عن التجمعات أيا كان مصدرها، وحبا دفينا لمدينتك القصر الكبير. حب العزلة ولد فيك رهافة حس بلغت الذروة في سماع الخبر، وقراءة الآثار، وساع ما يروق وما لا يروق؛ لكأني بك كنت تخشى على ما تضمه نفسك من صفاء السريرة وحب النقاء؛ فكأنك السمكة النادرة ما إن تطل على
سطح الماء حتى تغوص إلى القعر حيث المرجان والأصداف واللون الأزرق الأخاذ، أومثل بطل (ابن طفيل) في (حي بن يقظان) عاش في الغابة لا يعرف الإنسان حتى إذا خرج إلى المدينة لم يجد غير الزيف والكذب فعاد من حيث أتى مؤثرا حياة الغاب محققا قول المعري: _
عوى الذئب فاسأنست للذئب إذ عوى
وصـوت إنسـان فـكـدت أطيـر
وكنت شديد الحب لمدينتك القصر الكبير، كما كنت أنا – وما زلت – شديد الحب لمدينتي القنيطرة؛ ولكم تساءلنا: ما الذي يربطنا بمدينة تغيرت معالمها؟ تلك
المدينة التي كتبت عنها قصيدتك “وراء الماء” متأسيا على ما آلت إليه من مد اليد لمعونة الأجنبي بعد رخاء رتعت فيه؛ وكم تمنيت أن تعود إلى صفائها إذ قلت في “غفوة السهوب”:
ضقنا هنا:
فافتح منافذ الهواء
يعد إلينا في شعاب القفر يوما ألق الأحياء
أو ليست هسبريس التي جعلتها عنوان ديوانك الوحيد؟ هسبريس أو جنة تفاح الذهب عند المؤرخين؟ ألم يقل المؤرخون إنه كانت تقع بين العرائش والقصر الكبير؟..
فكيف أصبحت بعد أن ضاع فيها المثقف القديم؟ لقد حل بها السوق وأخلاق السوق فأمسى الدرهم مكان القلم والتاجر الشاطر مكان المفكر والأستاذ والنابه، ولقد أجدت في قولك عنها:
هنا هبت الريح دهرا وما حركت شجرا أو لهيبا، وكانت فصول
ومر لصوص، قضوا وطرا من دماها، وينتظر الآخرون.
أيها الصديق الغائب
تفتقدك رحاب الجامعة أستاذا متمكنا شديد الإخلاص والحب لعلمه وعمله. ويفتقدك الأصدقاء محاورا ذكيا واسع الإطلاع والإلمام بما يجد في الكتابات والأبحاث.
وتفتقدك هذه الزمرة المؤمنة بجدوى الكلمة وفعاليتها في عالم مجنون، ظامئ للدمار والسطوة الغاشمة.

أيها الصديق
تغيب عنا في لحظة التردي والتمزق، وما أشك في أنك طويت الضلوع على أوجاعها وساءلت نفسك ذلك السؤال المحرق الذي هز كيان أصدقائك الشاعرين
شعورك: ما قيمة كل هذا الركام من الفنون الموسيقية، والشعرية، والدراسات التاريخية، والفلسفية، والاجتماعية؟ بل ما قيمة آثار سقراط، والمعري، وابن خلدون، وشكسبير، وبرتراندارسل، والسياب، وجان أنوي، وهمنجواي الخ؟.. ما قيمة المتاحف واللوحات والكتب والمسارح والمعار؟ ما قيمة كل الجهد الإنساني النبيل منذ الماضي السحيق إلى زمننا، (يا عزيزي الراحل الشفاف)، إن لم يستطع أن يوقف قتل
الإنسان للإنسان، وتخريب الإنسان لروائع ما أبدعه الإنسان؟.
سؤال لاهب محرق، لكنني سأنوب عنك في الجواب: إنه مزيد من الدراسات الإنسانية في مواجهة الجشع والأثرة وسيادة الظلام، ومزيد من الأسى على الراحلين
من الجنود المؤمنين بهذه الدراسات الساعين لتحرير الإنسان من شهوات الإنسان.
رحم الله الصديق محمد الخمار الكنوني فقد كان واحدا من هؤلاء الجنود، كان واحدا من أتقاهم وأشدهم إخلاصا وإيمانا بالقيم الإنسانية في زمن الإحباط والمنافع الرخيصة، آثر العمل الجاد في زواية نائية عن أضواء النايلون الزائفة فمات في صمت دافئ بالطمأنينة وراحة الضمير. (ص.40/41/42)

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading