“مدينة الليل”

8 أبريل 2023

ذ. الخليل القدميري

هجرتك عنوة، حين لم تعد تستهويني رتوش ومساحيق استخدمت ببداوة لتلميع صورتك الباهتة. لم أعد أطيق العيش بين معتوهين يجترون عاهاتهم، أفواههم فاغرة وعيونهم غائرة، يحملون بلاويهم على أكتافهم، يتداولونها فيما بينهم حيناً، ويتراشقون بها أحياناً أخرى.

بحثت عن مكامن الداء داخل نبضك، فما عثرت سوى على مستحيل دائم التنكر في جثث محنطة، أجمل ما فيها تكشيرة الموت وعيون جاحظة تحيط بها شظايا طقوس بائدة، تعاند الزمن، وتقاوم الفناء، وهي ميتة منذ آلاف السنين.
هؤلاء الأشخاص ليسوا أفراداً بل مجموعات من الأفراد يضمهم جسد واحد نخرته العقد النفسية والأزمات العاطفية.

عدت إليك يا مدينة الليل فوجدتك توشكين على الذبول والخمود، وتغرقين في الاستماع إلى عازف الليل بوصفه ماضي الإنسانية بأسرها. ومصدر شغفك بهذا الاستماع انتسابك إلى حضارات سادت ثم بادت، ولم يكسبك ذلك سوى مزيد من السبات والتهميش، تجلى في ترانيم أسطورتك الأبدية.

وجدتُكِ مدينة بلا حزام ولا أحلام ولا أوهام إنسانية، يعجز من فيها عن التعبير عن آمالهم وأفراحهم وأتراحهم، وكلما حاولوا ذلك تعوزهم الأساليب والكلمات والاستعارات والحجج والمنطق والفلسفة…، فيعجزون، في ظلام الليل، عن رؤية الأشياء كما هي، عيونهم عمياء وقلوبهم صماء وعقولهم جوفاء.

وجدتها مدينة مريضة، تدين بعظمتها لدائها العضال وآلامها المتنوعة العديدة، والغريب أنها استأنست بآلامها وأوجاعها إلى أن أصابها تهيّج عقلي، شبيه بالعبقرية، مكنها من إمداد شبابها على الدوام بروح السعي إلى معرفة جوفاء، لتدارك ما فات، قبل أن يخفت صوتها وتتلاشى صورتها ويستديم تهميشها.

تعج مدينة الليل بأشباح لا تخرج إلا في الليل، ولا تتحرك إلا في الظلام، في سعيها للتعبد في محراب الوهم، والإمعان في إغراقه في ضباب الرؤى وسراديب اللاوعي الباردة. مدينة بارت أسوارها، وخرست أجراسها وما فضل من ذاكرتها سوى كومة من رماد تذروه الرياح، وعناكب عملاقة تتسلق أغصان الأشجار وأعمدة المباني، وحيتان تغوص في نهر آسن، نضب معينه وجف ماؤه، وكسته أصناف من طحالب متوحشة وطفيليات مارقة.

الرباط سادس أبريل 2023

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading