يوميات معتقل سابق (22) الأم ” رقية”.

7 أبريل 2023

ذ . ادريس حيدر

كانت رواية الكاتب الروسي ” ماكسيم غوركي ” المعنونة ب” الام ” قد اعجبتني كثيرا و أعدت قراءتها أكثر من مرة .
و قد تناول الكاتب من خلالها الظروف التي رافقت و كانت محيطة بالثورة البلشفية التي كانت تهدف إلى تأسيس النظام الاشتراكي ، و كان العمال قد اتحدوا من أجل دولة ” البروليتاريا ” و بالتالي قاموا بتجريد البورجوازية من ممتلكاتها .
و كانت بطلة هذه الرواية ” أُمُّ” لا تتجاوز الأربعينات من عمرها ، تعمل في مصنع روسي و تقوم فيه بأعمال يدوية شاقة و تكافح من أجل الإفلات من الفقر و الجوع .
إنها السيدة :” بيلاجيا نيلوفنا فلاموفا” .
و بعد وفاة زوجها ” السكير ” عاشت مع ابنها ” بافيل ” الذي قلد اباه في البداية ، ثم سرعان ما انخرط فجأة في أنشطة الحركة الثورية .
شعرت الأم ‘” بيلاجيا ” ، في البداية بالقلق إزاء أنشطة ابنها و بدأت تتعامل معه بحذر كبير خاصة أنها كانت أمية و لا تدرك فحوى تلك الحركات الاجتماعية .
فيما بعد ألقت الشرطة القيصرية القبض على ابنها ، فانضمت هي الأخرى إلى زملاءه في الحركة الثورية و بدأت توزع معهم المنشورات مدفوعة طبعا بحب ابنها .
مشاعر امومتها جعلها إذن ، تتغلب على جهلها السياسي و بالتالي انخرطت في العمل الثوري .
تقريبا نفس هذه الوقائع التي تضمنتها رواية ” الأم ” ، عشتها و صاحبي مع الفاضلة ” رقية “.
كانت هذه السيدة قد اقْتُرِحت علي ، لكي تساعدني و صديقي العزيز الذي لم يكن إلا الحقوقي الألمعي و الشاعر الماتع : ذ. محمد السكتاوي ، في القيام بشؤون البيت من طهي للطعام و تنظيف المنزل و التبضع….
كانت رفيعة القوام ، خجولة السلوك ، نظيفة الهندام ، ذات ذوق رفيع و ترتدي دائما وزرة بيضاء للعمل .
قليلة الكلام و كان صفيرا صغيرا يصاحب كلامها بسبب طاقم أسنانها الاصطناعي الذي لم يكن مثبتا بشكل جيد في فمها. و كانت تعشق الاستماع و الاستمتاع بالخالدات من روائع الطرب العربي لكل من : أم كلثوم ، أسمهان، محمد عبد الوهاب ، فريد الأطرش ، نجاة الصغيرة ….مما يدل على أنها ربما كانت ذات مقام رفيع.
مع مرور الأيام أصبحت قريبة و عزيزة علينا ، نظرا لوداعتها و سلوكها الراقي و إخلاصها في عملها ، و كان ذلك يظهر جليا من خلال التغيير الكبير الذي طرأ على البيت من حيث نظافته و ترتيبه اللافت للنظر.
و بعد مدة قصيرة ، بدأت ” موي رقية – و هكذا أصبحنا نناديها – تعطف علينا و تتصرف معنا بحنان و محبة كبيرين و كأنها أم ثانية لنا بعدما تربعت على عرش قلوبنا و وجداننا. فأمست أما و اختا و مساعدة لنا .
و صبيحة ذلك اليوم المشؤوم ، سمعنا في ساعة مبكرة من الصباح طرقا قويا على باب المنزل الذي كنا نسكنه ، و كأن الطارق كان يود تكسير الباب و اقتحام المنزل.
فتحته ” موي رقية ” ، محتجة على الازعاج و الفوضى الذي تسبب فيه الواقف خلفه ، فإذا بها تجد نفسها أمام غرباء ، دلفوا إلى الدار عنوة و أسقطوها أرضا و اشبعوها سبا و شتما و ضربا .
تم اقتيادها بصحبتنا إلى مفوضية الشرطة ، و هناك حُشِرْنا في إحدى الغرف المظلمة و الباردة ، فيما تعالت أصوات بعض رجال الاستخبارات و كانوا يسبون و يشتمون و يضربون ” موي رقية “.
و هددها أحدهم قائلا :
” سنقطع لسانك أيها القح…” .
أُرْغِمت ” موي رقية ” المسكينة على قضاء اليوم كله في المحبس بدون اكل أو شراب و مورس عليها كثير من العنف الجسدي و النفسي و اللفظي .
حاول المستنطقون استخراج معلومات منها تخص نشاطنا السياسي ، إلا أنها لم تبح بشيء كما أنها رفضت التعاون معهم مما عرضها لكثير من الإهانة .
و مع مرور الوقت أصبحت ” موي رقية ” تصاحب اسرتينا إلى السجن لزيارتنا خاصة و أنهما يسكنان بمدينة القصر الكبير بعيدا عن مدينة الرباط. بل و توفر لهما إقامة طيبة .
و ظلت تصاحب جريا سيارة الشرطة التي كانت تقلنا من القلعة الإسمنتية إلى المحكمة و العكس و هي تصيح باسمائنا و تبتسم رافعة يدها في الأول و سرعان ما اصبحت ترسم شارة النصر ، كل ذلك من أجل رفع معنوياتنا و إثارة انتباهنا إلى انها دائما معنا و لن تتخلى عنا .
و عندما كانت تُنْطق الأحكام القاسية في حقنا كانت تبكي بحسرة و حرقة علينا و على باقي الشباب الذين كانوا في عمر الزهور .
أصبحت ” موي رقية ” وجها مألوفا لدى عائلات المعتقلين السياسيين ، فقد كانت تساعدهم و ترفع معنوياتهم ، كما كانت دائمة الحضور بباب السجن بغية زيارتنا .
كانت قد أصبحت بمثابة كوة يطل منها المعتقلون و أسرهم و التي كانت تُدْخل ريحا طيبة تداعب وجدانهم و تخلق لهم الأمل في غد أفضل.
بعد الإفراج عنا بعد قضائنا للعقوبة المحكومين بها ، لم نتمكن من لقائها لأنها كانت طريحة الفراش و تدخل في غيبوبة متقطعة .
و كلما استرجعت وعيها إلا و سألت هل أُفْرِجَ عنا ؟
و بشكل متسارع و مباغت، دخلت في غيبوبة طويلة لم تستفق منها إلى و قد غادرت الحياة .
لروح ” موي رقية ” ألف سلام .

يتبع…

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading