ذ . ادريس حيدر
كانت رواية الكاتب الروسي ” ماكسيم غوركي ” المعنونة ب” الام ” قد اعجبتني كثيرا و أعدت قراءتها أكثر من مرة .
و قد تناول الكاتب من خلالها الظروف التي رافقت و كانت محيطة بالثورة البلشفية التي كانت تهدف إلى تأسيس النظام الاشتراكي ، و كان العمال قد اتحدوا من أجل دولة ” البروليتاريا ” و بالتالي قاموا بتجريد البورجوازية من ممتلكاتها .
و كانت بطلة هذه الرواية ” أُمُّ” لا تتجاوز الأربعينات من عمرها ، تعمل في مصنع روسي و تقوم فيه بأعمال يدوية شاقة و تكافح من أجل الإفلات من الفقر و الجوع .
إنها السيدة :” بيلاجيا نيلوفنا فلاموفا” .
و بعد وفاة زوجها ” السكير ” عاشت مع ابنها ” بافيل ” الذي قلد اباه في البداية ، ثم سرعان ما انخرط فجأة في أنشطة الحركة الثورية .
شعرت الأم ‘” بيلاجيا ” ، في البداية بالقلق إزاء أنشطة ابنها و بدأت تتعامل معه بحذر كبير خاصة أنها كانت أمية و لا تدرك فحوى تلك الحركات الاجتماعية .
فيما بعد ألقت الشرطة القيصرية القبض على ابنها ، فانضمت هي الأخرى إلى زملاءه في الحركة الثورية و بدأت توزع معهم المنشورات مدفوعة طبعا بحب ابنها .
مشاعر امومتها جعلها إذن ، تتغلب على جهلها السياسي و بالتالي انخرطت في العمل الثوري .
تقريبا نفس هذه الوقائع التي تضمنتها رواية ” الأم ” ، عشتها و صاحبي مع الفاضلة ” رقية “.
كانت هذه السيدة قد اقْتُرِحت علي ، لكي تساعدني و صديقي العزيز الذي لم يكن إلا الحقوقي الألمعي و الشاعر الماتع : ذ. محمد السكتاوي ، في القيام بشؤون البيت من طهي للطعام و تنظيف المنزل و التبضع….
كانت رفيعة القوام ، خجولة السلوك ، نظيفة الهندام ، ذات ذوق رفيع و ترتدي دائما وزرة بيضاء للعمل .
قليلة الكلام و كان صفيرا صغيرا يصاحب كلامها بسبب طاقم أسنانها الاصطناعي الذي لم يكن مثبتا بشكل جيد في فمها. و كانت تعشق الاستماع و الاستمتاع بالخالدات من روائع الطرب العربي لكل من : أم كلثوم ، أسمهان، محمد عبد الوهاب ، فريد الأطرش ، نجاة الصغيرة ….مما يدل على أنها ربما كانت ذات مقام رفيع.
مع مرور الأيام أصبحت قريبة و عزيزة علينا ، نظرا لوداعتها و سلوكها الراقي و إخلاصها في عملها ، و كان ذلك يظهر جليا من خلال التغيير الكبير الذي طرأ على البيت من حيث نظافته و ترتيبه اللافت للنظر.
و بعد مدة قصيرة ، بدأت ” موي رقية – و هكذا أصبحنا نناديها – تعطف علينا و تتصرف معنا بحنان و محبة كبيرين و كأنها أم ثانية لنا بعدما تربعت على عرش قلوبنا و وجداننا. فأمست أما و اختا و مساعدة لنا .
و صبيحة ذلك اليوم المشؤوم ، سمعنا في ساعة مبكرة من الصباح طرقا قويا على باب المنزل الذي كنا نسكنه ، و كأن الطارق كان يود تكسير الباب و اقتحام المنزل.
فتحته ” موي رقية ” ، محتجة على الازعاج و الفوضى الذي تسبب فيه الواقف خلفه ، فإذا بها تجد نفسها أمام غرباء ، دلفوا إلى الدار عنوة و أسقطوها أرضا و اشبعوها سبا و شتما و ضربا .
تم اقتيادها بصحبتنا إلى مفوضية الشرطة ، و هناك حُشِرْنا في إحدى الغرف المظلمة و الباردة ، فيما تعالت أصوات بعض رجال الاستخبارات و كانوا يسبون و يشتمون و يضربون ” موي رقية “.
و هددها أحدهم قائلا :
” سنقطع لسانك أيها القح…” .
أُرْغِمت ” موي رقية ” المسكينة على قضاء اليوم كله في المحبس بدون اكل أو شراب و مورس عليها كثير من العنف الجسدي و النفسي و اللفظي .
حاول المستنطقون استخراج معلومات منها تخص نشاطنا السياسي ، إلا أنها لم تبح بشيء كما أنها رفضت التعاون معهم مما عرضها لكثير من الإهانة .
و مع مرور الوقت أصبحت ” موي رقية ” تصاحب اسرتينا إلى السجن لزيارتنا خاصة و أنهما يسكنان بمدينة القصر الكبير بعيدا عن مدينة الرباط. بل و توفر لهما إقامة طيبة .
و ظلت تصاحب جريا سيارة الشرطة التي كانت تقلنا من القلعة الإسمنتية إلى المحكمة و العكس و هي تصيح باسمائنا و تبتسم رافعة يدها في الأول و سرعان ما اصبحت ترسم شارة النصر ، كل ذلك من أجل رفع معنوياتنا و إثارة انتباهنا إلى انها دائما معنا و لن تتخلى عنا .
و عندما كانت تُنْطق الأحكام القاسية في حقنا كانت تبكي بحسرة و حرقة علينا و على باقي الشباب الذين كانوا في عمر الزهور .
أصبحت ” موي رقية ” وجها مألوفا لدى عائلات المعتقلين السياسيين ، فقد كانت تساعدهم و ترفع معنوياتهم ، كما كانت دائمة الحضور بباب السجن بغية زيارتنا .
كانت قد أصبحت بمثابة كوة يطل منها المعتقلون و أسرهم و التي كانت تُدْخل ريحا طيبة تداعب وجدانهم و تخلق لهم الأمل في غد أفضل.
بعد الإفراج عنا بعد قضائنا للعقوبة المحكومين بها ، لم نتمكن من لقائها لأنها كانت طريحة الفراش و تدخل في غيبوبة متقطعة .
و كلما استرجعت وعيها إلا و سألت هل أُفْرِجَ عنا ؟
و بشكل متسارع و مباغت، دخلت في غيبوبة طويلة لم تستفق منها إلى و قد غادرت الحياة .
لروح ” موي رقية ” ألف سلام .
يتبع…