القاص محمد التطواني يكتب : زعازع إثنين من فبراير

27 فبراير 2023

   القاص محمد التطواني
1 / 3
قصة
في بقعِ أرضية سطحية من بقع مدينة يقال عنها أن أعمدتهاترسو فوق عظام الحيتان منذ القدم,كانت مجرد قرية الصيادين البحارة, لِما كانت تزخر به من منافذ عديدة من وادي الرّايْن , القادمة عبر بحر الشمال.
والتي هي اليوم تحمل إسم أمستردام, وأنا أسميها مدينة الجُمّانة أو اللؤلؤة .
كانت تقبع غرفة في إحدى عمارة تقاربت منازلها , يقطنها شاب حَلبي شديد الشكيمة , هاجر وطنه السوري , وانكمش على نفسه, لينكب على دراسة القانون بإحدى جامعتها , وإن كان االإغتراب أنهك ما يخالج ضميره وجيبه.
عرفته صدفة عند مدخل بوابة تعرض لوحات التشكيلي رِمبراند .
تعاقبت خلالها لقاءات وجولات, إنتهت بنا إلى صداقة حميمية , ربطت بين ماضينا القريب وحاضرنا.
ذات مرة, ونحن  في دردشة  بين المرح والحقيقة بداخل مقصورة قطار , أخبرني أن عظمه إنجبَر ,سببه صداقتنا بعد معاناة الوحدة وغيابه عن الأهل.
.. إنحدر دمعه .. سألته مرة أخرى , ومن خلال تناسُق كلامه , عرفت أن حالته أكبر مما تصورته.
تهالك برأسه على كتفي كلحظة استرخاء الى غاية أن تهدأ تنهيداته , وأنا أحاول أن لا أضع قدماي في موضع الزَّلق , لاحظت توَشْوُشا مِمن كانوا معنا في المقصورة , رميتهم بإشارة كتيار كهربائي دون حِسّ , تظاهر صديقي هشام بالتّوْباء ليخفي ما تعلق بجبهة ملامحه .
في الوقت , توقف القطار عند مدينة لاهاي العاصمة السياسية , لاحظت وكأن هشام تعافى شيئا ما ,من دوران كابوس شغله طوال سفرنا .
على بعد أمتار , تمكن سحب تذكرة السفر الى سوريا من مكتب الأسفار , وعلى عجل , توجهنا لقصر فاخر من أجل تسليمه شهادة الدكتورة , وسط حفل تكريمي تنظمه مؤسسة الشواهد العليا .
كلِّلت ثلاث سنوات بتحضير هشام الأطروحة بجدارة عالية, وكلفت والده مصارف حسب قدرالحاجة  بيع الرخيص والعالي من أجل مستقبل ابنه هشام .
قصدنا مَقْصِفاّ لنحصل على لقمة طعام نشد به رمق الجوع .

2 / 3
كان وجه هشام قطعة من قمر , وهو يقرأ كِلا الرسالتين المسلمة له من طرف مؤسسة الإمتحانات .
سألته : لما اخترت  هذه الغوطة ؟ هل لجمال موقعها ؟
ردّ بإشراقة وجهه : إنها تذكرني بغوطة والدي , كنت أرتع بين أشجارها , وأستحم بمائها العذب  .
أكلنا صحنا من فواكه البحر, ثم غادرنا المقْصِف , يصحبنا رذاذ شتوي خلال عودتنا الى بيت هشام .
عند متجر توقفنا, إشترى  هشام بعض الهدايا لوالده وإخوته , وخصّ والدته بشراء نسيج حريري مرصع بجواهر, بنقود دخرها من خدمات ليلية  بمطعم يغسل  الصحون ورمي القمامة.
قبل أن نستسلم للنوم , أطربني بأهزوجة دمشقية مصحوبة بأشعة بوارق , تدق نافذة الغرفة, وكأنها كانت تحمل رسائل شوق, ومدى لهفة والديه لعناق طويل , ولشرب قهوة الصباح بين  شجرة الزيزفون وخرير بركة , كان هشام حينها صغيرا يستمع لقصص من والدته , وهي تصفف له شعره .
الوقت فجر.. وقد استعحلنا عقرب الساعة, حتى لا يتأخر الأستاذ هشام عن موعد الرحلة , وكأن أضغات أحلام كادت تشد معصمه لتسرق فرحته .
دعوته الى مجبنة , لتناول وجبة الفطور  , بعدها ركبنا الحافلة, نضمن وصولنا الى المطار بأمان .
أخذت لحظة العناق بيننا وقتها , وأيدينا ترفض الفراق , تلاثمنا أخيرا , وتركته والجمارك .
عدت الى بيتي بمدينة ايندهوفن في الجنوب , والساعة توشك على دخول الفجر , صبيحة الإثنين الأسود .
تمرأربعة أيام على سفر هشام..
لم أقْوَ عن كفكفة دمعي  , وقد تناهى الى مسمعي عبر صفحة (وادصاب )صوت هشام,كانت كذبذبات متقاطعة , شعرت بتغيير تغصنات ملامحي , وأنا وسط عثمة بيتي, وهشام يختزل الحكي, ربما لحالته المزية اتجاه ما رآه حوله وما سمع من زعازع الشدائد التي أصابت وطنه , او كما جاء في حكيه : وكأني واقف على أطلال أحتمي بكومة من تبن , جراء برد قارس , لم يخبرونا ونحن بين السماء والأرض  .
بمشقة عثرت على مزرعتنا دون قطينها , التي أضحت كأرض جدباء , لا طير ولا انسان ولا جان .

3 / 3
تابع , ثم قال :لم أحضر اللحظات المرعبة , لكنها لم تغادر أي شبر من مزرعتنا , ولم ترفع يدها عن جس مدى خلفته من دمار .
أبي وأمي وإخوتي ماتوا عن بكرة أبيهم  كلهم , ولن تكفيني دموعي وإن نضَخَت عيوني دما .
الكل ميت , القاصي والقريب مني تحت حطام الحجر والتراب , والقلة القليلة  من يسمع زماجيرها , وصبايا قدر لها أن تولد تحت الردم والأنقاض , ولم يسعفها الحظ أن   تُقْمَط , وتنام في حضن أمها بين زغرودة الفرح .
إنقطع الإرسال .. لكن .. عين الله لم تنم .

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading