جمال عتو :
التقت نظراتهما العميقة فتحاورا قبل أن يقتربا من بعضهما ، كانا جنديين “عدوين” على خط التماس ، كل واحد منهما يتأبط بندقيته المشحدة ويتأزر رصاصا وقنابل يدوية ويحمل على ظهره زادا ، كل شيء كان يجمع بينهما : الدم والعرق واللغة والتاريخ ماعدا الجغرافيا اللعينة .
صار الذي بالجهة الغربية يداعب كلبا برجليه المتعبتين ، اختلس من الذي بالجهة الشرقية ابتسامة عريضة ، ربما في بادئ الأمر أهدى تلك الابتسامة للحيوان الأليف الذي لايفقه شيئا لكنه لايفرق بين أرض وأخرى ولايعبأ بالحدود .
قربت الشمس على المغيب ، اقترب الجنديان من بعضهما أكثر ، كان النسيم آنذاك عليلا خفيفا يلقي على المكان الصامت مسحة رومانسية لاتعترف بالحرب والبارود ، جلس الجندي الشرقي على صخرة محادية لشريط الحدود ، ألقى بندقيته جانبا ، أخرج طعاما رديئا ، ابتسم هذه المرة في وجه الجندي الغربي ، حياه بإشارة عسكرية ، أومأ إليه بالدنو ، استوى الاثنان متقابلين ، تصافحا ، تقاسما الزاد ، قصا على بعضيهما حكايات بها لوعة الفراق والبعد عن الحبيب وغربة الوطن ، كل أمر كان بينهما مفهوما ، منسابا ، سلسا سوى وجودهما متقابلين في رقعة أرضية قفراء .
بادر الجندي الغربي صديقه ” العدو ” بسؤال فدار بينهما حوار :
ـ لماذا نحن هنا ؟
ـ ندافع عن أرضينا .
ـ من يدافع ومن يهجم ؟
ـ لا أدري ، وأنت ؟
ـ وأنا أيضا لا أدري .
عند منتصف الليل صدرت أوامر قيادية بإطلاق النار فورا ، لعلع الرصاص ، اجتاز الكلب الحدود هاربا إلى الجهة الشرقية ، سمعت صفارات الإنذار من كلا الجهتين ، اختلط الحابل بالنابل ، عمت رائحة البارود الفضاء ، تلاشى النسيم العليل ، رحلت الحياة ، حضر الموت .
عند بزوغ نور الفجر ، تم تمشيط شريط الحدود من طرف فرقة أممية ، وجدت جنديين ملقيين بجثتيهما الهامدتين على طعام واحد وماء مسكوب ورسائل خطية .
فقد أفرغ كل واحد منهما رصاص بندقيته في صدر الآخر ، انحبست حكاياتهما قبل أن تنتهي وهما يأكلان الطعام ويتقاسمان الحديث .
كانت حكاية وهم عنوانه وطنان بينهما حدود من أسلاك شائكة .