“فارس المدينة”

14 فبراير 2023

الخليل القدميري : 

من العلامات الحضارية المميزة لمدن الشمال العتيقة المكانة الاعتبارية التي تحظى بها بعض الشخصيات الهامشية التي تكتسب شعبيتها من حب الناس وتقديرهم لها. من بين هذه الشخصيات الملقب ب “ازْرَعْ كْوّنْ”. وهو شخصية هامشية لامعة، احتلت مكانة مرموقة في حياة مجتمع عاصمة إقليم الشمال، في خمسينات وستينات القرن الماضي، وكان حضوره ضرورياً ولافتاً في المناسبات والأعياد والتظاهرات الرياضية. وهو من كان يتصدر طابور فرق الموسيقى في الاستعراضات في المناسبات الوطنية والأعياد، يمسك بيده اليمنى عصا كبيرة، يقوم بقذفها إلى أعلى ثم يلتقطها ويديرها بمهارة، فتصبح بين يديه وكأنها حية تسعى. وهناك من يرى شبهاً كبيراً بينه وبين الممثل الكوميدي المكسيكي “ماريو مورينو”، الذي لعب دور” كانتينفلاس” في السينما وعلى خشبة المسرح وفي السيرك. وقد اشتهر بلباسه العسكري والنياشين التي تزيّن صدره، وشاربه المقصوص بعناية، ومشيته الحالمة، وحركاته البهلوانية.

“ازْرَعْ كْوّنْ” نسخة منقحة للمكسيكي ” كانتينفلاس”، وصورة للفارس الحالم “دون كيشوت دي لا مانشا”، تراه يمشي بخيلاء ورأسه مرفوعة، ينظر إلى الأفق البعيد غير عابئ بما حوله ومن حوله. وقد انحصر اهتمامه في العناية بمظهره، ليبدو رجلاً عظيماً محترماً، مليح الصورة، حسن الهندام. مثله في ذلك مثل الشخصيات الأسطورية، لما تظهره من هيبة ووقار وعز وافتخار. وحين ينغمس في تمثيل طقوس دوره ببراعة، يبدو كمن يعيش في عالم غير عالمنا، فلا يعبأ بالأطفال وهم يتحلقون من حوله وينادونه: بلقبه “ازرع كون”، طوال اليوم.

نالت شخصية “ازرع كون” حب وإعجاب ساكنة المدينة، لما كان يضفيه حضوره من ألفة ومرح ونكتة وما ينتج عن ذلك من خصوبة في علاقاته التلقائية مع الناس. فتدوولت أقواله وحكمه، وتعاظمت شعبيته بينهم، لتبلغ مرتبة العلامات البارزة في المدينة، ومرافقها الرياضية، ومجالاتها الترفيهية. وقد أهلته إجادته للغة سيرفانطيس، إلى الاندماج مع أفراد الجالية الإسبانية والطائفة اليهودية، والتعايش معهم، فكانوا يقدرونه ويزودونه بما يحتاجه من مؤن وملابس ومستلزمات، تعينه على الحفاظ على رونق هندامه وعلى نمط العيش الذي ارتضاه لنفسه.

في أيامه الأخيرة، أصبحت كلمة “ازرع كون” تضايق الرجل، لأن كل من يصادفه ينادي عليه بها طيلة اليوم، فكان، أحياناً، يضرب بصولجانه، الذي لا يفارقه، كل من اقترب منه وناداه بلقبه.

وقد بلغ الأمر بوالد أحد الأطفال إلى تقديم دعوى قضائية ضد “ازرع كون”، لما أحدثه من جرح غائر في رأس طفله، في الشارع العام، وقد كانت جلسة محاكمته شبيهة بجلسات محاكمة رجال السياسة، حيث تطوع للدفاع عنه عدد من المحامين وكانت قاعة المحكمة غاصة بجمهور الحاضرين. وحين سأل القاضي المدعى عليه بخصوص واقعة الضرب التي يَمْثُل بموجبها أمام المحكمة، بادر “ازرع كون” بدعوة القاضي إلى الصلاة على سيدنا محمد، فصلى القاضي على النبي مرة واحدة. فطالبه المدعى عليه بصلاة ثانية على النبي، فامتثل القاضي لرغبته، وقاعة المحكمة تضج بالضحك، فما كان من المدعى عليه إلا أن طلب من القاضي الصلاة على النبي للمرة الثالثة. وحينها أمر القاضي المدعى عليه بإخبار المحكمة بقوله فيما يخص واقعة الضرب المنسوبة إليه، فقال : أرأيتم يا سعادة القاضي كيف أن المطالبة بتكرار الصلاة على النبي العدنان تقلق، إذا خرجت عن سياقها، فما بالك سعادتكم بهذا العبد الضعيف، الماثل أمام محكمتكم الموقرة، وهو يسمع لقب “ازرع كون” طيلة اليوم؟

الرباط 25 ديسمبر 2021

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading