” بعد لحظاتي الأخيرة”

5 يناير 2023

_ الخليل القدميري

كان علي أن أستحم، وأرتدي أحسن ما لدي من الثياب، وأن أتعطر لألتحق بالموكب ضاحكاً مستبشراً، متخذاً مكاناً لي بين المدعوين. طغتْ عليَّ، في تلك اللحظات الفريدة، معالم الحبور وكأنني، بذلك، وددت أن أثبت لنفسي ولمن حولي أنه من الطبيعي أن أبدوَ رجلاً سعيداً وأنا على أهبة الإبحار إلى ضفة الوجود الأخرى، حيث يرفعنا الموت إلى أعلى مراتب الحرية. فلعلنا نجد، بعد مغادرة قارب الرحيل، سكينة، سنظل معها أحياء ننعم بوجود لا حد له. ويستمر معنا نغم الوجود بعد أن تغادر الحياة البدن، وينكشف السر في أن لا يدري المرء شيئاً عن لحظاته الأخيرة في الحياة، لكونها تتحصن داخل قدرتها الخارقة على التمويه وعلى التحرك بحرية في أكمل صورها، وإذا أمعنّا التفكير فيها فإنها قد تحمل لنا ومضات جديدة لنوع من الأسرار ومن صور الوجود المجسد بعد الموت. وبذلك بدا لي كما لو أنني مررت عبر باب، متنقلاً من غرفة إلى أخرى، كأنما ذهبت لأنام لاستيقظ في مكان آخر.

كل ما شعرت به في الوضع الجديد هو أن الأمر لا يعدو أن يكون انتقالاً من حال إلى حال، من زمان إلى لا زمان ومن مكان إلى لا مكان ومن معنى إلى معنى مغاير. لازالت حالة السكون والطمأنينة تسود وتستقر، ويتعاظم اتساع نطاق الحرية ويزداد عمق التأمل ويترسخ مفعول الهيام بما يزخر به هذا الكون المتجدد من بدائع وتحف رائعة تتجلى في ثنايا الوجود عند كل حدب وصوب. لا وقت هنا للألم ولا للرغبة ولا للحزن ولا للضغينة، لقد تحوّلت أضغاث الحياة الدنيا إلى صمت وتأمل في متاهات الوجود. وهي صبغة أخرى للقول إن المعنى يحمل في طياته تنظيماً وترتيباً وفصلاً وتمييزاً وغايةً، وهو جزء من مقتضيات الفهم وشرط من شروطه. والفهم لا ينصب إلا على ما له معنى أو قصد صريح أو مضمر تختزنه الرموز و العلامات وهي تحل محل ما تقوم بتعيينه وتمييزه عن معاني الوجود الأخرى.

شعرت كما لو أنني تخلصت من عبء المسير في الليل البهيم، بلا بوصلة ولا فرقد ولا جرم منير. ها قد اتضحت الرؤية وانقشع الضباب وأشرقت شمس ساطعة طالما توارت خلف سحاب داكن ودخان. تهللت أسارير الكلمات واتضحت معانيها وأحاطت بها فراشات ملونة وعصافير مغردة ونسائم من كل الطبائع والأذواق. لا نظير لما أرى؛ إذ يتعذر علي وصفه، لأنني لا أملك لا الكلمات ولا الصيغ ولا المعاني ولا السياقات التي تفي بالمطلوب. نسيج وحده ما أرى وما أسمع وما يمور من حولي من مداخل ومخارج وعلل ومعلولات وسبائك نفيسة أبدعتها مهارة يتجاوز مداها كل وصف وتتهاوى أمام بهائها كل وسائل التعبير التي عرفتها البشرية منذ عهودها الأولى.

القصر الكبير يوم الأحد 25 دجنبر 2022

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading