أمينة

15 نوفمبر 2022

ذ. الخليل القدميري

يوم رأت النور في حومة “الهْري” بالمدينة القديمة، عمّت الفرحة أركان بيت عتيق، ضم أب المولودة السعيدة وعمها وزوجتيهما وأبنائهما. عاشت “أمينة” بين إخوتها وأبناء عمومتها متشبعة بقيم سادت حينها في مجتمع المدينة؛ من أهمها الصدق في المعاملة وواجب القيام بما يفرضه الانتماء إلى أسرة ممتدة، توارث أفرادها امتهان الفلاحة، كما كان حال أسر أخرى استوطنت عدوة الشريعة. وحين أدركها أوان الرحيل إلى بيت الزوجية، تم تجهيزها بكل لوازم العروس، ودام فرحها عدة أيام، تبودلت خلالها الزيارات والهدايا بين الأسرتين، والتحقت بزوجها، مؤهلة لتصبح ربة بيت ناجحة.

لم تنجب “أمينة” مولوداً يؤنس وحشتها خلال عِشْرَةٍ دامت عَشْرَةَ أعوام، وحين قضى زوجها إثر حادثة شغل مميتة، لم يبقَ للأرملة، بعد رحيل أبويها وأغلب أفراد أسرتها، سوى أن تشتغل في بيوت ولجتها مُنْتصِبةَ القامة، وخرجت منها، في أرذل العمر، لتنعزل في غرفتها.

اكتفت “أمينة” بأجر زهيد، وسقف تأوي إليه ليلاً لتلملم جراحها وانكساراتها في انتظار يوم جديد. كنست، وطبخت، وغسلت ونظّفت، وحملت على متنها أطفال ومتاع سيدتها، وقضت أغراضها وأغراض أبنائها ومعارفها، وتمت إعارتها كما يعار الماعون بين الجيران عند الحاجة. لا أحد مِمّنْ حولها تَفهّمَ سلوك “أمينة” من منظورها هيّ، أو تساءل عن حاجتها في الاستمتاع بحياة خالية من المنغّصات أو لاحظ، على الأقل، ظهور علامات الوهن عليها.

أي لعنة حلّتْ بأمينة، جعلتها تضع رضا مشغليها فوق كل اعتبار؟ ألم تكن بذلك حبيسة قيود نسجتها بمخيلتها حول نفسها ؟ وما الدوافع التي جعلت الأصنام المتحجرة تنفض يدها منها دون أن يشفع لها ما قدمته من تضحيات ؟ ولماذا تلكّأتْ التماثيل المرمرية، المحيطة بتلك الأصنام، في ثنيها عن حرمان أمينة من حقها في معاملة كريمة، تحفظ ماء وجهها ؟

حين نفذ مخزون صبرها، لملمت أمينة أغراضها ومن ضمنها لفيف عدلي لإثبات ملكية غرفة آلت إليها من ميراث أبيها، وتسلّلتْ زاحفةً إليها في الصباح الباكر، لتقضي بها ما فضل من أيام عمرها.

وبحكم ما بيننا من مودة كان باطنها أحسن من ظاهرها، كما قيل، طرقنا باب غرفة أمينة فأتانا صوتها خافتاً، وحين تعرّفَتْ علينا من أصواتنا، اعتذرتْ لأنها لم تعد تقوى حتى على النهوض لفتح باب غرفتها، وكان علينا أن ننتظر عودة أرملة أخيها، وهي، بدورها، تشتغل في البيوت. وحين سألنا “أمينة” عن حالها أجابت كعادتها بأنها بخير، وهذا ما لم تؤكده هيأتها ونبرات صوتها…
مدينة كيبك 11 نونبر 2022

_______________________________________
سميتها “أمينة” لأمانتها وصدقها وتفانيها في خدمة الآخرين مقابل أن تعيش بأمان واطمئنان.
أشعر أن كلماتي لم تسعفني للتعبير عما أثارته في نفسي حقيقة معاناة بطلة هذه القصة القصيرة. وذلك راجع، ربما، لكون الحقيقة كما قيل ليست جوهراً قائماً بذاته بمعزل عن الخطاب ينتظر من يعمل على كشفه أو الإعلان عنه، وإنما هي ما يخلقه النص نفسه. وكلما كان الكلام أكثر حجباً للحقيقة كان أكثر قوة ومن ثمّ أقدر على إظهار حقيقته وفرض نفسه.
أرجو أن أكون قد لامست، بهذا المفهوم، حقيقة ما جرى لبطلة هذه القصة.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading