
بقلم: أحمد الشواي
كان “جميل” أستاذًا للأدب يرى أن الكتابة ليست تمرينًا لغويًا، بل طقسًا من طقوس الكشف، وأن العشق لا يبدأ حين نلتقي أحدًا، بل حين نلتقي أنفسنا في وجه أحدهم.
في إحدى الحصص، قال لتلميذه “سفيان” الذي كان يملك قلبًا يفيض بالأسئلة:
– اكتب لي رسالة حب.
رفع سفيان رأسه بدهشة:
– لكن لمن أكتبها يا أستاذ؟
ابتسم جميل وهو يحدّق في النافذة:
– لمن لا تعرفها بعد، فربما الكتابة تسبق الحب.
جلس سفيان إلى مكتبه وبدأ يكتب بقلمٍ خجول:
إلى التي لا أعرفها بعد،
لا أدري أين تمشين الآن، ولا أي ضوءٍ يرافقك،
لكنّي أشعر بكِ كلما مرّ النسيم من جهة القلب.
يقول أستاذي إن الحبّ من يكتشفنا،
فربما حين تكتشفين هذه الكلمات،
أكون قد صرت مستعدًا للحبّ.”
حين قرأ جميل الرسالة، ابتسم بعمقٍ لم يفهمه سفيان، وقال:
– احفظها يا ولدي، فالكلمات التي نكتبها بصدقٍ قبل أن نعيشها، تعود إلينا يومًا لتختبرنا.
مرّت السنوات، وتبدّلت الأمكنة، لكن الرسالة بقيت.
أصبح سفيان شابًا مولعًا بالكتب والمقاهي الهادئة، يكتب الشعر ويبحث عن وجهٍ يشبه ما خطّه ذات مساء في دفتر المدرسة.
وذات يوم، تلقّى دعوة لحضور أمسية شعرية لشاعرة شابة تُدعى ليلى.
دخل القاعة متأخرًا، فوجدها على المنصّة، تقرأ قصيدة بعنوان “إلى الذي كتبني قبل أن يراني”.
تجمّد في مكانه.
كانت كلماتها تنساب من فمها كأنها تُعيد كتابة رسالته القديمة — نفس النغمة، نفس الدهشة، نفس النداء الصامت.
اقترب منها بعد الحفل وقال بصوتٍ مبحوح:
– هل تذكرين رسالةً بعنوان “إلى التي لا أعرفها بعد”؟
نظرت إليه باستغرابٍ عذب، وقالت:
– وجدتها بين أوراقٍ قديمة في مكتبة الجامعة، لا أعرف لمن كانت… لكنّها غيّرت طريقتي في الكتابة، وفي الحبّ أيضًا.
ابتسم وقال كمن تحدّث إلى القدر نفسه:
– يبدو أن الرسالة وصلت… حتى وإن لم أرسلها.
بدأ بينهما عشقٌ يشبه الشعر: نظرات طويلة، رسائل غير موقّعة، لقاءات تختصرها الصمتات.
كانت ليلى قصيدةً تمشي على الأرض، وكان سفيان يخشى أن يفسدها بالكلام.
لكنّ الجمال لا يقيم طويلًا في مكان واحد.
ببطءٍ بدأت المسافة تكبر بينهما، والرسائل تقلّ، حتى اختفى صوتها تمامًا.
وفي أحد الأيام، قرأ سفيان في جريدةٍ أدبية قصيدة جديدة لها بعنوان “إلى الذي كتبني ثم نسي”.
كانت القصيدة اعترافًا ناعمًا بالخيانة، مغلفة بالعطر والصدق والدمع.
قرأها حتى النهاية، ثم طوى الجريدة وقال في نفسه:
– ربما الحبّ لا يكتشفنا ليمنحنا السعادة، بل ليكشف هشاشتنا فقط.
عاد إلى مكتبه القديم، فتح دفتراً جديدًا وكتب على الصفحة الأولى:
“إلى التي لم تُرسل إليها الرسالة”،
كنتِ بداية الحلم، وصرتِ نهايته،
لكنّ الحبر الذي كتبكِ ما زال حيًّا في داخلي.”
ثم أغلق الدفتر، ووضعه في درجٍ مغلق،
كما لو أنه يخبئ فيه قلبه،
وعلى الغلاف كتب: الرسالة التي لم تُرسل.
ومنذ ذلك اليوم، لم يكتب سفيان رسالة حبٍ أخرى.
لأنه أدرك أن بعض الرسائل خُلقت لا لتُرسل،
بل لتذكّرنا فقط بأننا كُنّا قادرين على الحبّ… يومًا ما.
ح.10/11/2025