
- لبيب المسعدي
بسم الماضي الذي يلقح الحاضر بفكاهة مريرة…
سأروي لكم اعزائي، اصدقائي وحتى أعدائي الطيبون، مشهدا من مستقبل ستدور أحداثه ربما بعد اقل من عشر سنوات، وسط فصل في مدرسة ابتدائية بمدينة القصر الكبير.
يومها ستكون الآلة الزمنية التي تسمى ذاكرة المدينة تعمل بكفاءة عالية في ذاك الصباح. المعلمة (سأسميها أمال) ستقف أمام صف من أحفادنا نحن المعاصرون. وجوههم تعكس براءة لم تعش رعب الحجر الصحي عام 2020.
ستسأل:
أجدادكم عاشوا في زمن الوباء العظيم! ماذا قدموا حين اختبرت الإنسانية أصدقاءها؟
انطلقت التلميذة الأولى: جدتي كانت تتقاسم طعام أسرتها مع جارتها المسنة المعزولة.
همت المعلمة: التضامن حين تكون الحياة رهاناً!
التلميذ الثاني: جدي كان يمتهن الخياطة. حول منزله إلى مصنع كمامات ثم وزعها مجاناً على الأهل والجيران.
ابتسمت: الإبداع هو أن تخلق الأمل من خيوط اليأس!
التلميذ الثالت: جدي كان يعمل شرطيا، سهر ليل نهار للحفاظ على الأمن والاستقرار.
التلميذ الرابع: جدتي الممرضة كادت تموت بين المصابين!
حزنت: الشجاعة أن تختار المعركة رغم معرفتك بثمنها!
ثم جاءت الإجابات التي تنتظرها بلهفة الساخر…
التلميذ الخامس : جدي كان عضوا بالمجلس الجماعي … يحكى انه اكتفى بالمكوث في المنزل!
التلميذ السادس: جدي رحمه الله كان رئيسا للمجلس الجماعي، اكتفى بالتطبيل للحكومة على مجهوداتها الفاشلة، ونجح في جلب وتوزيع قفف غدائية على الأسر التي صوتت عليه وعلى جمعياته الموالية. في ركوب سياسي حقير على مأسي الضعفاء.
لم تتمالك الأطفال من ضحكة مكتومة.
التلميذ السابع: جدي كان يكتب من خلال شاشة هاتفه هاشطاغ بقا فدارك، من غرفة نومه! ولا يخرج إلى نادراً لاخد صور مع السلطات المحلية.
قالت المعلمة وهي تتظاهر بالجدية: انها البهرجة، لقد اخترعوا نوعا جديدا من النضال… النضال الرقمي!
التلميذ الثامن: جدي كان قلما اصفرا، يطبل ليل نهار للجهة الغلابة وينتقد مجهودات الفرق المحايدة والمعارضة لولي أمره
التلميذ التاسع: جدي الشاعر فقد إلهامه!
همست: يا للمفارقة! لقد وجد المئات الإلهام في المحنة، بينما فضل هو أن يضيع!
في نهاية الحصة، تأملت المعلمة وجوه الأطفال وقالت بنبرة تجمع بين الحكمة والسخرية:
أطفالي الأعزاء…
أنتم اليوم ورثة مدينة أكثر إنسانية، ليس بسبب كل الأجداد، بل رغم بعض الأجداد.
تعلموا من هذا الدرس:
• أن الأبطال الحقيقيين ليسوا أولئك الذين ينتظرون اللحظة المناسبة للعمل، بل هم من يخلقون الأمل في لحظة يستسلم فيها الآخرون.
• وأن البشر نوعان: من يبني سردية البطولة من العطاء، ومن يبني سردية البطولة من الكلمات.
لقد كشف الوباء عن حقيقة أجدادكم كما يكشف النار عن ذهب المعدن:
• فمنهم من كان كالشمس، يعطي ولا يتوقف حتى حين يحجبته السحب.
• ومنهم من كان كالقمر، يظهر حينا ويختفي حيناً، ويظل ينتظر من يضيئه.
تذكروا دائما:
الحجر الصحي لم يكن اختبارا للبشرية، بل كان مجهرا كشف عن طبيعتها الحقيقية.
ثمة صمت عميق في الفصل، وكأن أنفاس الأطفال توقفت لحظة، بينما كانت أشعة الشمس تتسلل من النافذة لتضيء وجه المعلمة التي أنهت الدرس بقولها:
لتكن أخلاقكم في الأزمات كتوقيعكم على جبين التاريخ. إما أن تخلدكم، أو تجعلكم مجرد هامش في سجل النسيان.