غربة رقمية :

25 سبتمبر 2025
Oplus_131072

بقلم : لبيب المسعدي:

قبل ثورة مواقع التواصل الإجتماعي، كانت الحياة تتسع لأصدقاء الحي، وجيران الحارة، وأقارب في الغالب لا نراهم إلا في بعض المناسبات. كنا نلتقي وجها لوجه، نقرأ ما تخفيه العيون قبل ما تنطق به الشفاه. كانت الصداقة تبنى على مهل، كالنبات الذي ينمو مع الزمن، يروى بلقاءات متكررة وضحكات متقاسمة على مقعد في القسم، على عتبات منازل الحي، أو حول مائدة في ركن مقاهي المدينة.
أما اليوم، فقد صارت حياتنا نافذة زرقاء. نافذة نطل منها على عالم لا نحتاج معه إلى مغادرة فراشنا. صرنا نعرف تفاصيل حياة أناس لم نلمس أيديهم أبدا، ولم نسمع ضحكاتهم الحقيقية إلا عبر مقطع مسجل، والعكس صحيح أيضا. نتبادل معهم أحلامنا وخواطرنا وكأنهم رفاق درب قديمون، بينما قد تفصل بيننا محيطات وقارات. ترى كيف حدث هذا التحول العجيب؟
كيف صرنا نفضل حديث شخص غريب عنا بآلاف الكيلومترات، يكتب كلمات حنونة تحت صورنا، على جلسة مع صديق في الواقع قد لا ينتبه إلى حزننا المستتر؟ هل لأن الصداقة الافتراضية صارت ملجأ من تعقيدات العلاقات الحقيقية وهفواتها؟ أم لأننا نبحث عن نسخ مثالية من الناس، نصنعها نحن من خلال صورةٍ مختارة بعناية وتعليق متقن الصياغة؟
التهمنا الزمن في هذه المملكة الرقمية، حتى أصبحنا خبراء في تشريح النوايا من خلال لايك طائش رسل إلينا دون تفكير، أو تعليق مختصر أو حتى من خلال صمت مطول! نحاول أن نقرأ الصدق من النفاق في مساحة لا صوت فيها ولا إحساس، فقط حروف باردة قد تكتبها أصابع لا تعرف القلب الذي تخاطبه. والأعجب من ذلك، ذلك الانفجار الهائل للفضيلة والحكمة. فكل من خلف الشاشات أصبح فيلسوفا يوزع الحكم، وشاعرا يطلق التغريدات، وواعظا يملأ الخط الزمني بالمواعظ.
أتساءل : أين هم الأشرار؟ أين هم الأشخاص السيئون الذين تقابلك بهم في زحام الحياة؟ يبدو أنهم هنا أيضاً، لكنهم يرتدون أقنعة القديسين، ويتبارون في خطب الفضيلة، وكأن العالم الافتراضي قد التهم كل شروره واقتات عليها، فلم يتبق سوى حكماء هذا الزمن الجديد!
ربما نحن لا نتواصل حقاً، بل نلعب أدوارا في مسرحيات ضخمة. نبحث عن صداقة بلا أعباء، وعن حب بلا مسؤولية.
في النهاية، قد تكون هذه الحياة الافتراضية التي عشناها على “الفايسبوك” هي صرخة العصر. صرخة إنسان متعب من واقعه، فاخترع لنفسه واقعا موازيا يمنحه ما افتقده: البساطة، والاهتمام، والشعور بأنه جزء من عالم لا تحكمه حواجز المكان والزمان. لكنه يبقى، مع كل هذا السحر، عالما من وهم نصنعه بأطراف أصابعنا، وقد يتحول إلى غربة حقيقية إذا نسينا كيف نلمس أيادي ونتحسس أنفاس من نحب، حقاً.
#لبيبيات

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading