
– بقلم : لبيب المسعدي
أعتقد أنني مدمن على مراقبة العالم من خلف زجاج سميك. بعين مسالمة وبعقل لا يتوقف أبدا عن التحليل، افكك كل نظرة، كل كلمة، كل صمت. إنها نعمة ونقمة في نفس الوقت.
أنا مدمن على الملاحظة. أدمنت منذ طفولتي تفكيك اللحظات إلى ذرات من النوايا والاحتمالات. أرى التغير الطفيف في نبرة الصوت، وأقرأ المسافة التي يضعها الشخص بين كلماته، وأفهم ما لا يقال أكثر مما يقال. كم مرهق أن تحمل مجهرا على قلبك طوال الوقت. أن ترى أكثر مما يجب، وتعرف أكثر مما تتحمل. لذلك احتميت بعد الترك بالسخرية. جعلت منها درعا واقيا. من الأسهل أن أضحك على الجرح بدلا من أن أعترف أنه ينزف. من الأسهل أن أكون ساخراً لاذعا على أن أكون إنسانا عنيفا غاضبا. السخرية سلاح أنقذني من نفسي، من رغبتي في تحطيم كل ما يخيب ظني. لكنها في النهاية، جعلتني أبدو قاسيا بينما انا في الحقيقة مجرد طفل جريح يخبئ آلامه وراء قناع من اللامبالاة.
كنت أعتقد أن الدنيا تسير بالمنطق الذي فهمته من أبي وأمي: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم، اشتغل بجدٍّ يحترمك الجميع، كن طيبا تجتذب الطيبين.
كم كان ذلك ساذجاً.
اليوم، أرى الأمر بوضوح مؤلم: الناس تنجذب إلى القوة مثل الفراش حول المصباح. لو كنت في القمة وكان النجاح يتساقط عليك كالمطر، الجميع سيكون هنا. يبتسمون ويسفقون، يعدونك بالولاء. فتشعر أن العالم كله في حاولك
لكنهم فالحقيقة لم يكونوا معك… كانوا مع النجاح نفسه. كانوا يبحثون عن دفئه، عن منفعته، عن الضوء المنعكس الذي يجعلهم يبدون مهمين لمجرد وقوفهم بجانبك.
الأسوأ أننا نحن أبناء التربية ‘المثالية’ لسنا مجهزين نفسياً لهذه الكارثة. تربينا على أن نرى الخير حتى في نظرة الشر. نبحث عن عذر لأي إساءة. نحمل أنفسنا ذنب خيبة الآخرين. (لعله كان مشغولا، ربما لم يقصد، كل وظروفه، قد يكون يعاني من شيء لا أعرفه) نبقى مثل الدراويش نبحث عن ألف عذر لنحب من يؤذينا، ونحترم من يحتقرنا.
ثم تأتي الضربة القاضية: الفشل. لحظة الحقيقة التي تميز الصديق من الطفيلي. ستكتشف فجأة أن الهاتف صامت، والرسائل توقفت، والوجوه التي كانت تملأ غرفتك اختفت. ستتكدس الخسارة على كتفيك وحدك. ستمر بظلمتك وحدك.
اليوم، وأنا هنا في صمتي هذا، أدرك أن أكبر خطيئة ارتكبها والداي بحبهم الشديد وسذاجتهم النبيلة، هي أنهم لم يحذروني. لم يقولوا: (يا بني، الحياة ليست مثل كتاب الأخلاق. سيقف بجانك أناس ليسوا أهلا لرباط حذائك، وسيخذلونك أناس أقسموا لك بالله أنهم لن يفعلوا.
تعلمت أن أتركها على الله ليس لأنني متقزم، بل لأنني تعلمت أن أختار معاركي. استسلمت لفكرة أنني لن أستصلح كل القلوب، ولن أفهم كل النفوس. اكتفيت بأن أكون صادقاً مع نفسي أولا. أن أتقبل أن بعض الناس أشرار بشكل عادي، وبعضهم جبناء بشكل مزمن، وأن هذا ليس حزنا، بل هي الحقيقة.
اتركها على الله. يعني أن أتوقف عن هزيمة نفسي بسذاجتي. يعني أن أضع يدي في يد العدالة الإلهية التي لا تخيب، بدلا من أن أضعها في أيادي بشرية أثبتت خيبتها.
تعلمت. متأخرا جدا، أن أجمل دعاء يمكن أن ترفعه إلى السماء ليس النجاح الباهر، ولا الحب الأسطوري. لا. إنه دعاء بسيط وعميق: الصحة، والاستقلالية المالية. اكتشفت أن كل الفلسفات والتعقيدات التي عشتها تتهاوى أمام نوبة مرض مفاجئ. او في فترة تقهقر الى نحو اسفل الطبقات المجتمعية، أدركت ان كل العلاقات المعقدة تتبسط فجأة عندما تملك حرية القرار التي يوفرها المال. الصحة هي التي تمنحك القدرة على الاستمتاع بحياتك، والاستقلالية المالية هي التي تمنحك الحق في أن تقول “لا” دون خوف، وأن تختار من يكون في دائرة ضوئك دون اضطرار.
لم أعد أطلب من السماء إلا هذا: جسدا قويا يحمل هذا العقل المتعب، وحسابا بنكيا يكفيني مواجهة الحياة بكرامة. كل ما عداه تفاصيل.
اتركها على الله… نعم. لكن الآن وأنا أتركها، أفعل ذلك وأنا أحدد بالضبط ما أطلبه: حصانة من الداخل، وحرية من الخارج. لأني تعلمت أن القوة الحقيقية هي أن تكون سليما لتستطيع العطاء، ومستقلا لتستطيع الرفض.
ربما هذه هي براءة الكبار الحقيقية، أن تدرك أن أعقد الأسرار تكمن في أبسط الأشياء.