
– بقلم: ذ.محمد الشدادي
من بين الدوافع التي جعلتني أكتب هذه القصة، ما نعيشه يوميا من مشاهد مؤلمة خلال هذه الأيام داخل مجتمعنا المدرسي: دمعة أم تخفي عجزها عن شراء محفظة، وألم أب يرهقه السؤال اليومي من طفله عن كتاب أو قلم لا يملكه. هذه القصة ليست مجرد حكاية مدرسية، بل هي صرخة أمل، حلم صغير أرجو أن يتحول إلى واقع كبير.
أكتبها وأنا أؤمن أن كل قسم دراسي يمكن أن يصبح منبعا للخير، وأن كل تلميذ قادر على أن يغير حياة زميله بمبادرة بسيطة، لكنها عظيمة في أثرها.
فإن وجدت نفسك بين سطورها، فلتكن أنت البداية. وإن قرأتها داخل مؤسسة تعليمية، فلتكن شرارة مشروع ينبت في القلوب بذورا لا تنسى.
……..
في بداية الموسم الدراسي، عاد تلاميذ القسم الخامس إلى مدرستهم بحماس كبير. كانت الحقائب جديدة، والأقلام ملونة، والدفاتر تنتظر أولى الكلمات. لكن وسط هذا الجو المبهج، لاحظت التلميذة هبة أن زميلهم آدم يأتي كل يوم دون حقيبة، يحمل دفترا قديما وقلما يكاد ينفد حبره، ويجلس بصمت في آخر الصف…
هبة، التي عرفت بين زملائها بروحها الطيبة، لم تتجاهل الأمر. في استراحة اليوم التالي، جمعت أصدقاءها وقالت: آدم واحد منا، ولن نتركه يبدأ السنة بهذا الشكل. كل واحد منا لديه شيء زائد في بيته، فلنحضره له.
تحمس الجميع، وبدأوا يجمعون دفاتر لم تستخدم، أقلاما إضافية، ومحفظة جميلة تبرعت بها إحدى الأمهات.
لكن هبة أرادت أن تكون المبادرة منظمة أكثر. فاختارت مجموعة من التلاميذ الذين يعرفون بحالتهم الميسورة واقترحت عليهم أن يتقاسموا بينهم شراء كتب المقرر :
كل واحد منهم يحضِر كتابا واحدا، وهكذا تكمل المجموعة دون أن يثقل على أحد.
وافقوا فورا، بل تطوع أحدهم لشراء بدلة مدرسية جديدة لآدم، وقال بابتسامة: لا يجب أن يشعر بأنه مختلف عنا، حتى في مظهره.
وفي صباح يوم الإثنين، دخل آدم الفصل فوجد على طاولته محفظة مرتبة، مليئة بكل ما يحتاجه، وبدلة جديدة معلقة بجانب السبورة. وقف مذهولا، ثم انفجر وجهه بابتسامة لم تر من قبل. المعلمة دمعت عيناها، وقالت: هذه هي المدرسة التي نحلم بها، مدرسة القلب قبل العقل.
تأثر التلاميذ بهذه اللحظة، وقرروا أن يخلدوا المبادرة باسم رمزي لقسمهم. فاختاروا اسم “حجرة القلوب البيضاء”، وعلقوا لافتة جميلة على باب القسم كتب عليها:
“هنا نزرع الأدوات، ونحصد القيم.”
هذه اللافتة جعلت تلاميذ باقي الأقسام يتساءلون عن سبب وضع هذه اللافتة.
لم تمر أيام قليلة حتى بدأت الأقسام الأخرى تتفاعل. في المستوى السادس، أطلق التلاميذ مبادرة مماثلة، وسموا قسمهم “حجرة اليد المفتوحة”. أما المستوى الثالث، فاختاروا اسم “حجرة الأمل الصامت”، بعد أن ساعدوا زميلا دون أن يشعروا أحدا.
وهكذا، تحولت المدرسة إلى فسيفساء من المبادرات، كل قسم يحمل اسما يجسد قيمة إنسانية:
– حجرة العطاء النقي.
– حجرة الكرامة المدرسية.
– حجرة المحفظة المشتركة
– حجرة القلب الواحد.
وبدورها، قامت جمعية آباء وأولياء التلاميذ بدعم هذه المبادرات، فتكفلت بواجبات تسجيل بعض التلاميذ المنتمين لأسر هشة، وساهمت في شراء لوازم مدرسية إضافية، كما انخرط الأستاذة في هذه المبادرات، مما عزز روح التضامن داخل المؤسسة.
وفي نهاية الأسدوس الأول من الموسم الدراسي نظمت المدرسة حفلا سنويا مميزا، تم فيه تكريم التلاميذ أصحاب المبادرات في كل قسم، وسط تصفيقات زملائهم أسرهم. لم تكن الجوائز مادية، بل كانت شهادات رمزية تحمل عبارات مثل: “هبة صانعة الأمل”، “عبدالرحيم رفيق القلب”، “حسام بطل التضامن”..
وقد علقت هذه الشهادات على جدران الأقسام، لتصبح مصدر فخر وتحفيز دائم.
ومن يومها، لم تعد المدرسة مجرد مكان للدراسة، بل فضاء حيا يعلم التلاميذ أن النجاح لا يقاس فقط بالعلامات، بل أيضا بما يزرع في القلوب من رحمة، ووعي، وانتماء.