
– بقلم : محمد الشدادي
في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه القيم، يطل علينا المولد النبوي الشريف كفسحة نور ومحراب تأمل، وموعد تربوي تتجدد فيه الصلة بين الأجيال وسيرة النبي محمد ﷺ.
ليست هذه الذكرى مجرد مناسبة دينية عابرة، بل هي لحظة وعي جماعي تعيد للأمة بوصلتها، وتذكرها بأن القدوة ليست بعيدة، وأن الرسالة لا تزال تنبض بالحياة في تفاصيل السيرة، وفي القيم التي حملها صاحبها إلى العالمين.
في المغرب، كما في كثير من البلدان الإسلامية، تتحول الزوايا خلال هذه المناسبة إلى فضاءات روحانية نابضة بالحياة. تقام حلقات الذكر، وتتلى المدائح النبوية، وترتل الهمزية والبردة، في مشهد يختلط فيه الفن بالإيمان، والتاريخ بالوجدان. هذه الطقوس، وإن بدت للبعض فولكلورية، فإنها تشكل في وجدان الناشئة ذاكرة حية ترسخ حب النبي ﷺ وتغذي الانتماء الروحي والثقافي، وتفتح أمامهم نافذة لفهم الدين من بوابة الجمال والرحمة.
المدرسة، بدورها، تلعب دورا محوريا في تحويل هذه الذكرى إلى مشروع تربوي متكامل. من خلال أنشطة متنوعة، تصبح السيرة النبوية مادة حية تدرس بالقلب قبل العقل. تروى القصص النبوية بأسلوب مشوق يلامس خيال الطفل، وتنظم ورش فنية تعبر عن حب النبي ﷺ بالرسم والخط والزخرفة، وتقدم مسرحيات مدرسية تجسد مواقف من السيرة وتحفز التقمص الإيجابي، كما تقام مسابقات معرفية تشجع على البحث والقراءة وتنمي روح التنافس الشريف. كل هذه الأنشطة تحول المناسبة إلى لحظة تربوية بامتياز، تغرس فيها القيم وتصقل فيها الشخصية.
الاحتفال بالمولد النبوي هو فرصة لغرس القيم التي شكلت جوهر الرسالة المحمدية. من خلال السيرة، يتعلم الأطفال الرحمة من قصة النبي مع الطفل الذي مات عصفوره، والصدق من لقب “الصادق الأمين”، والتسامح من مشهد عفو النبي عن أهل مكة يوم الفتح، وحب العلم من حديث “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، وحب الوطن من قوله ﷺ عن مكة: “والله إنك لخير أرض الله ،وأحب أرض الله إلى، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت “. هذه القيم لا تدرس نظريا فقط، بل تترجم إلى سلوك يومي، يجسدها الطفل في تعامله مع زملائه، في احترامه لمعلميه، وفي وعيه بذاته ومحيطه.
ورغم ما يثار أحيانا من جدل حول مشروعية الاحتفال بالمولد، فإن الرد التربوي يظل الأقوى. فالبدعة تقاس بغاياتها لا بزمنها، وإذا كان الاحتفال يغرس القيم، ويحيي السيرة، ويقرب الناشئة من نبيهم، فهو إذا تجديد للعهد مع الرسالة، لا خروج عنها. إن إحياء السيرة النبوية هو واجب تربوي، ووسيلة حضارية لتأصيل الهوية، وتحصين الوجدان من التيه والانفصال عن الجذور.
في زمن الصورة، يصبح الإعلام شريكا تربويا لا مجرد ناقل للحدث. من خلال برامج وثائقية، وندوات فكرية، ومداخلات تربوية، يمكن للإعلام أن يعيد الاعتبار للرسالة المحمدية، ويبرز القيم الكونية التي حملها النبي ﷺ، ويشرك المفكرين والمربين والفنانين في صياغة خطاب تربوي راق، يخاطب العقل والوجدان معا.
الاحتفال بالمولد النبوي لا ينبغي أن يختزل في مظاهر احتفالية، بل يجب أن يتحول إلى مشروع تربوي جماعي، تشارك فيه كل مكونات المجتمع. المساجد تقدم خطبا ودروسا حول السيرة النبوية، والمدارس تنظم أنشطة ثقافية وفنية وتربوية، وجمعيات المجتمع المدني تقيم مهرجانات وورش عمل، أما الأسرة فتشارك بسرد القصص، وخلق أجواء رمزية، ومشاركة وجدانية تقرب الطفل من نبيه وترسخ في قلبه معاني الحب والاقتداء.
إن المولد النبوي الشريف ليس لحظة احتفالية عابرة، بل هو موعد سنوي يذكرنا بأن التربية ليست موسمية، وأن القيم لا تغرس في يوم واحد. هو مشروع تربوي مستدام، يترجم إلى سلوك، ويجسد في التعامل، ويثمر في بناء الإنسان. فلنعلم أبناءنا أن الاحتفال الحقيقي لا يكون بالزينة وحدها، بل بأن نشعل فيهم شموع الرحمة، ونغرس فيهم بذور الصدق، ونرشدهم إلى دروب العلم. فليكن المولد النبوي موعدا مع التربية، وميثاقا مع القيم، ونافذة نطل منها على مستقبل تضيئه سيرة لا تغيب، ونبي لا ينسى.