أستاذ العبرية بين الهيبة العلمية والصرامة البيداغوجية: حين تتحوّل الحصة إلى مناظرة

30 يوليو 2025
Oplus_131072

– ذ . أحمد العبودي :

أحمد شحلان، العالم الصارم والمربي القدير:
كانت مناسبة هذا المقال مشاهدتي لحلقة من حوار”في الاستشراق” الذي بثته منصة “مجتمع”، وكان ضيف الحوار الدكتور أحمد شحلان. أعادتني تلك اللحظة إلى زمن منتصف الثمانينات حين كنت طالبا في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط، وكان شحلان أحد أعلامها البارزين. أستاذ فريد في تكوينه، متميز في أسلوبه، قليل النظير في حضوره وصرامته.
التكوين العلمي والانشغال الأكاديمي:
ينتمي الدكتور شحلان إلى نخبة من الباحثين المغاربة الذين تخصّصوا في اللغات السامية، ركز بشكل خاص على اللغة العبرية، دارسا ومقارنا بينها وبين العربية. يمتلك تكوينا علميا واسعا، انعكس في مشاركاته في العديد من الندوات الأكاديمية الكبرى، من بينها ندوة ابن رشد بكلية الآداب بالرباط، حيث قدّم مداخلة علمية محكمة أبرز فيها التداخلات الفلسفية واللغوية بين الثقافة العربية والعبرية.
من أبرز إسهاماته الأكاديمية، دراساته حول الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، الذي عاش في ظل الحضارة العربية الإسلامية. لقد بيّن شحلان كيف تأثر ابن ميمون بمنهج المتكلمين المسلمين في الدفاع عن عقيدته اليهودية، إلى درجة ـ كما حدثنا شحلان ـ أنه وغيره في بعض المواضع استبدل لفظ “الإسلام” بـ”اليهودية” دون أن يغيّر المنطق الحجاجي.
صرامة بيداغوجية وانضباط منهجي:
تميّز أسلوب الأستاذ أحمد شحلان بصرامة لا تلين في تعامله البيداغوجي، خاصة في حصصه الأسبوعية المخصصة لتدريس اللغة العبرية. كان حريصا على إتمام الحصة كاملة (120 دقيقة)، لا يتغيب ولا يتأخر، بل يسجل الدقائق الضائعة بدقة ويضيفها على السبورة أمام الطلبة، مؤمنا بأن الوقت جزء من المنهج العام الذي يتبناه.
حصة يوم الخميس من الساعة الرابعة إلى السادسة مساءً، كانت موعدا ذا قدسية لطلبة شعبة الأدب العربي والدراسات الإسلامية، ممن اختاروا دراسة العبرية كلغة مشرقية. لم تكن الحصة مجرد درس لغوي، بل كانت مجالا للتفكير المقارن بين المعجم العبري ونظيره العربي، خاصة بالرجوع إلى النصوص القرآنية والشعر الجاهلي، دون مفاضلة ـ أثناء المقارنة ـ بالكتب السماوية ، حفاظا على “الموضوعية الأكاديمية” وطقوس الدرس الجامعي.
علاقة فريدة بالطلبة: هيبة، حوار، انضباط…
عرف الأستاذ شحلان بعلاقته المتميزة مع الطلبة، علاقة قوامها الهيبة والاحترام المشوب بالخوف أحيانا، أو الحياء إلى درجة الخوف. لم يكن التسيب يجد إليه سبيلاً؛ فقد كان حضوره الطاغي كافيا لفرض النظام والانضباط، حتى في القاعات المكتظة، كقاعة ابن رشد التي كان يحاضر فيها.
في آخر امتحان من سلك الإجازة ، واجهني بقوله: “إنك لم تكن تحضر.” فاعترضت موضحا أن غيابي اقتصر على أيام معدودة بسبب المرض، فأجابني: “الأسئلة هي التي ستكشف الحقيقة.” ولحسن حظي، قرأت النص العبري قراءة سليمة نالت رضاه، لكن خوفي لم يكن من النقطة العددية التي سيمنحها الأستاذ بقدر ما كان بسبب خشيتي من أن أخيب ظن هذا الأستاذ الهرم، وفي ذلك عقوبة نفسية لا أطيقها.
حين كان يفتح المجال للأسئلة، يحوّل الحصة إلى مناظرة علمية حقيقية، يقدّر فيها كل سؤال مهما بدا بسيطًا، يدقق السؤال ويعيد صياغته ويعطيه أبعاد واضحة ويجعل منه مدخلا لحوار علمي معمّق وواسع .
الوجه الإنساني في صمت الأستاذ:
كثيرا ما راودتنا أفكار ـ في مرحلة ما ـ حول مدى تحيّزه للتوراة أو دفاعه عن التراث العبري وآدابه (ساعتها ذكر لنا أن عبريا نال جائزة نوبل في الآداب) ، خصوصا حين كان يظهر إعجابا بمنهج ابن ميمون أو يثير قضايا لغوية ونحوية ذات صلة بالديانة التوراتية. وكنت مع صديق لي نتجهز لمواجهته بأسئلة حول تحريف التوراة وصدق القرآن…لكن هيبة الأستاذ كانت أكبر بكثير من أسئلتنا. أكبر مفاجأة كانت حين صلّى معنا ذات يوم في مسجد الكلية وخرج يحمل في يمينه محفظته “الديبلوماسية”، لم يكن المسجد سوى فضاء ضيق (مرآب) واقع تحت قاعة ابن رشد. فكان أول وآخر أستاذ جامعي نراه صلى حيث يصلى الطلبة، هذا الأمر جعلنا نفهم حينها شيئا من حكمته .
إشعاع أكاديمي وأثر متجدد:
لم يكن أحمد شحلان مجرد أستاذ جامعي، بل كان تجربة معرفية متكاملة، تركت أثرا عميقا في تكوين أجيال من الطلبة المغاربة. لا يزال حضوره العلمي المتزن، وصلابته في الدفاع عن العلم، وشجاعته في مقارعة الجهل، شاهدة على مرحلة ذهبية من الحياة الجامعية.
استرجاعي لتلك السنوات، بعد مشاهدتي لحواره حول مسألة أيهما أقدم: العربية لغة القرآن أم العبرية لغة التوراة؟، كان بمثابة رحلة إلى زمن الدرس الحقيقي، حيث يلتقي العمق المعرفي بالحضور الإنساني، وحيث الأستاذ لا يدرّس فحسب، بل يربّي بالعقل والمواقف.

 

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading