مونولوغ في دهاليز العطاء مقتطفات من يوميات فاعل جمعوي سابق.

7 يونيو 2025

– بقلم : لبيب المسعدي .

انطلقت رفقة أصدقائي كفارس واهم يحمل راية “معاً” لفك أسر العزلة عن شيوخ القصر الكبير، كمن يصارع أشباحا بيدين عاريتين. في قصر الوزارة، حيث تتكاثر الوعود كالفطر السام، رقصنا على أنغام آمال واهية: الحلم كان بسيطا، مركز نهاري لاستقبال العزّل! نظرت وزيرة التضامن إلينا بعينين تشعان بِرطانة الدبلوماسيا، فآمنا لوهلة أن أرواحا عجوزة ستولد من جديد بين أروقة المشروع. غادرنا بحقيبة ملأى بأوراق رسمية تثقل كاهلها فراغات الختم الأحمر، كأنما البيروقراطية ساحرة حولت حلمنا إلى طائر محنط في قفص زجاجي.

ثم جاء مجلس البلدة، ذاك السيرك الفاشل الذي يعيد تعريف السخرية: جلس أعضاؤه قبالتي يتثاءبون أمام شروحي كتلاميذ يرغمون على دروس في الفيزياء النووية. كلما تحدثت عن حمامات آمنة للمسنين، ارتسمت على وجوههم علامات استفهام كأسيجة شائكة. اقترح أحدهم – ببراءة تذوب منها القلوب – تحويل الميزانية إلى ملاعب بعيدة سموها بالقرب كأنما شيوخنا يحتاجون أرجوحات لا أذرعا تحتضن رعشة العمر. اقترح آخر بكل خساسة : علاش ما تخدموشي على الشباب؟ فهمت يومها أن الوحدة وحدها ليست المشكلة، بل الغباء المؤسساتي الذي يحولها إلى قلعة منيعة. شرط الموالات لخططهم السياسية، وهذا طبعا لن يكون لهم أبدا ما حييت.

بينما كنت أصارع تنانين المحلية، فتحت لي نوافذ على عالم آخر: الفيدرالية الدولية للمسنين. وكنت العضو الوحيد في العالم العربي. نعم! نفسي التي كانت تراوغ بلدية متعجرفة، تجلس الآن في قاعات تابعة للأمم المتحدة في باريس كسفير مغربي للعزّل. تحدثنا عن سياسات كونية بينما ظل شرياني متصلا بمعركة كرسي خشبي في حديقة القصر الكبير. كم ضحكت وأنا أترجم “مكافحة العنف المالي” في باريس بينما جاري الحاج محمد يخبئ نقوده في جوارب ممزقة خوفاً من أحفاده! تعلمت هناك أن الشر متعدد اللغات، لكن الخلاص محلي كرغيف خبز يخرج من تنور حار.
ثم هبطت رسالة الشراكة الحكومية كطائر غريب في حديقة الجمعية الفتية. أمسكت بالورقة المذهبة كمن يجد جوهرة في كومة قمامة. خطابات رسمية تتدفق عسلاً، وأختام تلمع كعيون الثعالب. تذكرت فجأة عجوزاً التقيتها صباحا تنتظر حفيدها عند النافذة، عيناها بحر من صبر منهك. تساءلت: هل ستقرأ هذه الأوراق المزخرفة دمعة جفّت على خد؟ أم ستُدفن مع آلاف “الشراكات الاستراتيجية” في مقابر الأرشيف؟

الغريب أن كل هذا العبث لم يقتل الأمل في وفي كل حالم قبلي، فمازلت أرى في عزلتهم مرايا لنوافذنا المغلقة، وفي صراخنا البيروقراطي صدى لضحكاتنا الخائنة. ربما كنا – نحن فاعلي الخير كما يفضل السطحيون تسميتنا- مجرد مهرجين في سيرك شعبي: نرفع أيدينا نحو أطياف الحلول، بينما العزلة الحقيقية تعشش في قلوب من يرفضون رؤية الإنسان خلف رقم الإحصاء. لكني أقسمت أن أحرث بأضافري هذا الطريق وأرفع صوتي عاليا أفضل من نعومة صمت جبان.
يا له من وطن أحمق

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading