الأستاذ أحمد العبودي :
ـ المنهج والمضمون والقيمة العلمية ـ
يُعدُّ كتاب “مجالس القرآن” للدكتور فريد الأنصاري (ثلاثة أجزاء) من أبرز المؤلفات المعاصرة في مجال التأمل والتدبر القرآني، وقد شكّل علامة فارقة في إعادة ربط القارئ المعاصر بالقرآن الكريم على مستوى الفهم القلبي والتفاعل الوجداني والبعد الوظيفي. الكتاب في الأصل دروس تفسيرية (مدارسات) ألقيت في شكل مجالس وعظية (جلسات تربوية تنظيمية)، ثم جُمعت في هذا المنتج النفيس، الأمر الذي أعطاه بُعداً عملياً وروحياً خاصا قلّ أن يتوفر في كتب التفسير الأكاديمية المعروفة.
منهج الكتاب:
اتبع الأنصاري رحمه الله منهجاً تدبرياً مقاصدياً، مخالفاً للمنهج التقليدي الذي يركز على اللغة وعلومها أوالأحكام الفقهية…وبدلاً من ذلك، ركّز على بث روح المعاني الإيمانية والغايات الحضارية للقرآن الكريم، من خلال عرض تأملي متبصر يستهدف جلاء الرسائل الربانية الموجهة للإنسان عموما وللمسلم المعاصر على وجه التحديد.
ينتمي المنهج التفسيري في “مجالس القرآن” إلى مدرسة الإحياء القرآني عموما ، أو “بعثة التجديد المقبلة” كما سماها في كتاب “الفطرية”حيث يسعى المؤلف إلى إبراز أهمية “إحياء الأمة” وبعثها الحضاري من خلال تفعيل القرآن في الواقع وإشعال فتيله في قلوب المؤمنين به خيارا استرتتيجيا في الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية ، وليس مجرد شرحه في قوالب نظرية جامدة. وفي هذا يُلاحظ انحياز المؤلف رحمه الله إلى نهج أسلوب في التفسير شبيه بالتفسير الموضوعي، حيث يتناول سور القرآن بحسب موضوعاتها الكلية، وإن بدا أنه يتتبعها آية تلو آية كما في التفاسير المعروفة، كل ذلك عبر أربع خطوات منهجية وهي: 1ـ كلمات الابتلاء(الآيات موضوع التفسير) 2ـ البيان العام(المعاني العامة الثاوية في الآيات) 3ـ الهدى المنهاجي(رسائل أو مقاصد مستخلصة من الآيات) 4 ـ مسلك التخلق( كيفية جعل تعليمات القرآن الواردة في الآيات سلوكا عمليا وخلقا راسخا تصدر عنه أفعال المسلم )
مضمون الكتاب:
يغطي الكتاب بأجزائه تفسير عدد من السور المكية والمدنية، مع تركيز خاص على سور المرحلة المكية لما لها من أثر في بناء الإنسان وإبلاغ رسالة القرآن في أفق إقامة العمران البشري على هدي من تسديد الوحي. ويناقش المرحوم الأنصاري موضوعات تتعلق بالعقيدة، والبعث، والتوحيد، وتاريخ العقائد، والدعوة، والصراع الحضاري، والاستكبار العالمي القديم والحديث…مبرزاً كيف أن القرآن يبني الإنسان من الداخل ليكون شاهداً على العالم ومسهما في تغييره نحو الأفضل.
ومن أهم المضامين التي يتكرر حضورها في الكتاب: مركزية الرسالة المحمدية، الدور التربوي للقرآن، البُعد الحضاري للدعوة، أهمية إصلاح الفرد بوصفه منطلقاً لإصلاح الأمة… وخلال ذلك يظهر أثر التجربة الدعوية للمؤلِّف، إذ يتحدث من واقع ميداني لا من برجه العاجي، ليجعل القارئ يحس بقوة الخطاب وصدقه ويتفهم طموحه الإصلاحي المشروع.
القيمة العلمية للكتاب:
رغم أن “مجالس القرآن” ليس كتاب تفسير تقليدي بالمعايير الأكاديمية، إلا أن قيمته العلمية عالية الجودة من جهات متعددة؛ فالكتاب يفتح آفاقاً جديدة في فهم القرآن بعيداً عن الجمود وفي منأى عن أي محاولة تفسيرية من غير ضوابط وقواعد منهجية وعلمية. كما أن”مجالس القرآن” بصيغة أخرى يعيد الاعتبار للقرآن بصفته كتاب هداية ورؤية لتأسيس النظم الحضارية بكل مجالاتها . ولذلك يُعد هذا الكتاب مرجعاً أساسياً لمن أراد دراسة التفسير الموضوعي أو التدبر المنهجي المعاصر للقرآن الكريم.
ويتميز المؤلًّف بلغة بيانية راقية وأنيقة، تمزج بين العمق المعرفي والصدق الروحي والجمال الأدبي، على نحو يجعله خطابا مؤثراً في النفوس، إلى جانب كونه مفيداً للعقول ومصححا لكثير من المفاهيم والمغالطات، داحضا للشبهات والمزاعم. ولقد ترك الكتاب أثراً واضحاً في العديد من الحركات الإسلامية والتنظيمات الدعوية، خاصة في المغرب العربي، حيث أسهم في تأسيس ما يُعرف عند البعض بـ”المنهج الرباني في التربية والدعوة”.
خلاصة:
“مجالس القرآن” ليس مجرد تفسير، بل منطلق لمشروع إحياء الأمة من خلال مكابدة القرآن. جمع بين المنهج التجديدي، والمضمون الإيماني، واللغة المؤثرة، مما جعله مرجعاً حياة، لا مجرد كتاب للبركة أو التلاوة أو الترف العلمي.
