من مذكراتي… يا حياتي انقلبي أكثر … فهل من مزيد؟

25 مايو 2025

بقلم : لبيب المسعدي

لم تكن شوارع باريس التي انحنت ذات حقبة من عمري تحت عجلات سيارة أجرة سوى صفحات مفتوحة من سيرة لم تختتم. كنت أقر المدينةَ كرواية مكتوبة بلغة الضوضاء، أترجم صمت الركاب إلى حكايات تذوب في زفرات المحرك، لكني أدركت لاحقا أن السفر الحقيقي لا يقاس بمسافات تقطع، بل بمساحات تكتشف داخل المرء نفسه.
اخترت الأرصفة ورشة لصناعة الأمل، فصرت فاعلا جمعوها أجمع شظايا الناس كبائع متجول للأمل و للذاكرة، أعرض آلامهم المنسية في سوق الواقع المرصع بالتناقضات. لكن الثورات الكبرى لا تعلن في الميادين، بل تختمر بصمت خلف أطباق ساخنة، حيث يختلط عرق الجبين برائحة القهوة، في معملٍ صغير لإعادة تشكيل الكرامة.
أمسك اليوم فنجانا كمرآة تعكس ملامح الغرباء، أقدم فيه شرابا أسود كالليل أو أحمرا ثوريا كطبعي العنيد، لكنه يحمل دفئا يشبه يد أم تمسح جراح الطفولة. فالنادل ليس مجرد وظيفة، بل حارس أسرار المقهى وخياط غير مرئيّ يصلح تمزقات الروح بخيوط من ابتسامة صامتة.
من قال إن الهوية سجن من أوراقٍ رسمية؟ أنا لست سائقاً تحول إلى نادِل، ولا مناضلا ارتدى مئزر الخدمة. أنا ذلك الكائن الذي يرفض أن يختزل إلى عنوان، يكتب سيرته بأدوات المهمشين: بملعقة تخلط السكر بالهموم، ومنشفة تمسح آثار الأوهام عن الطاولات.
الحياة مائدة دائرية تدور على نفسها، نتبادل فيها أدوار الآكلين والخادمين. ففي اللحظة التي تظن فيها أنك جالس لتتذوق طعامك، تكتشف أن اليد التي تطعمك قد تكون نفسها التي تحمل جرحا لم يندمل. لا وجود لمراتب ثابتة هنا، فكلنا نخدم ونخدم، ناططي ونأخذ، نبحث عن ذواتنا في مرايا الآخرين.
هكذا تُختبر الإنسانيةُ حقاً: حين تتحول الوظائف إلى كائنات هجينة، تحمل في جعبتها تناقضات الوجود كاملة. فليس المهم ماذا تفعل، بل أي روحٍ تزرع في فعلتك البسيطة، وأي بصمةٍ خفية تتركها على جدار هذا العالم الواسع و الضيق في نفس الوقت.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading