د : عز الدين ابراهيمي
يوم من البكاء في بداية رحلتي مع الاجتثاث…
و أنا أحدق في معالم هذه الصورة و التي تعود لأكثر من ثلاثين سنة، وجدتني أكاد أجهش بالبكاء… فرغم الابتسامة، ذكرتني هذه الصورة بالشاب اليافع عزالدين المسكين و ذلك اليوم المشهود كأول يوم لرحلة الغربة و لسنوات طوال… وجدتني أستعد لمغادرة بيتنا متوجها للديار الفرنسية… أتمالك نفسي حتى لا أجهش بالبكاء أمام أمي و إخوتي و جدتي… أكابر و أتكابر و أتكبر على العويل الذي يستهويني في تلك اللحظة… و لكني أتخاذل في أخر لحظة و أصدع بأنين الفراق… إلى اليوم… لا أستطيع أن أصف ذلك الصوت الذي مازال يمزق طبلة أذني… و هكذا يتحول رحيل الابن النجيب لمتابعة دراسته إلى مأتم عائلي… جو يسوده النحيب و كلمات مطحونة بالدموع… أتمالك نفسي قليلا و أترك أبي يجتثني إلى داخل السيارة المتوجهة إلى ميناء طنجة… طافت في مخيلتي فكرة المقاومة… و لكن هل يمكننا أن نقاوم قدرنا و مصيرنا… فأستسلم للاجتثاث و لا ألتفت خلفي حتى لا أتخاذل مرة أخرى… أستجمع كل قواي… و لي في أبي الذي يقتادني إلى طنجة سند إلى حين… ألقي نظرة وداع على مولاي علي بوغالب و الجبانية… علني أدمغهما في مخيلتي… و الغريب و أنا أمر بمصلى العيد… وجدتني أتذكر كل هزائم حسنية مولاي علي بوغالب على أرض هذا الملعب… نعم… إنه يوم الاجتثاث… و لا مكان للانتصارات فيه… و لا أستطيع تذكر ولو انتصار واحد… فأنكسر مرة أخرى…
و أنا أعبر قنطرة اللوكوس على ضفة العرائش… كدت أنتفض على والدي و أطالبه بأخذ قسط من الراحة حتى أستمتع بشاطئ بيليكروسا و الذي تراءى لي أجمل من نيس و موناكو و الفرنش ريفيرا التي أتوجه إليها… نعم فكل شيء نسبي في تلك اللحظة… و لكني أتمالك نفسي حتى لا أفقد أخر شذرات العزة بالنفس و التي سأحتاجها حتما و نحن نصل إلى ميناء طنجة… و حتما في لحظة الحسم هاته… أو مشهد الفينالي… و مرة أخرى وكأن هذا اليوم قدر له أن يكون قاسيا منذ طلوع شمسه الحارقة… هاهو أبي يمدني بممتلكاتي و بحوائجي… و وجدتني و رغم غيبوبة اللحظة… أسأل سؤالا وجوديا… أهذا كل “أنا” و هذه كينونتي… محفظة ملئى بأوراق و دروس فارغة من أي معنى لحياتي… و صاكادو فيه جوج من الحاجة… و دراهم قلة … و تأشيرة على جواز سفر… عزالدين، كل هذه السنين بالمغرب يختزل في هاته الأشياء… هزلت… نعم و هزلت الأنا في… فتسلحت مرة أخرى ببكائي و أطلقت له العنان و أنا أعانق أبي… و شعور بداخلي يدفعني أن أستعطفه ليتركني في كنفه… و لكنني تذكرت جدتي و هي تنصحني مودعة… “كن راجل”… واخا الحاجة… متكون غير على خاطرك… حتى أنت و بمؤامرة مع كل العائلة، ترغمونني على صعود سلاليم الباخرة… أستسلم و أقبل أن أجتث… و أجلس في أول مقعد أجده… فجأة وجدت نفسي في مئة عام من العزلة… و أمني نفسي بمصير موسم الهجرة إلى الشمال… و عمدا صرت لا أريد أن أعي بأي شيء من حولي و أنا أتمعن، غير مصدق، أن الباخرة تغادر الميناء… و روحي تنتزع و تجتث من نفسي… فأعود إلى أمان ذهولي و أغيب نفسي في “روعة” لوعة الفراق…
و أنا أستمتع بعبثية غيبوبتي المفبركة… أسمع صوتا من بعيد قريب لشخص يطلب الجلوس بجانبي… لا أكترث له و لا لطلبه… لا أريد أن يخرجني أحد من غيبوبتي لأني لا أحب أن أعود إلى الحياة… و لكنه يسترسل في حديثه من طرف واحد فيسألني… بل ينحرني بسؤاله… “هل أنت مسافر لوحدك”… لا.لا. لا… لا، أرجوك إلا هذا السؤال… يا الله، لماذا يمعن الجميع و في مؤامرة كونية باجتثاثي و بقساوة… فيعيدني هذا السؤال فور استيعابه إلى حالة من البكاء الهستيري… فكم هو جميل ملجأ البكاء في مثل هذه الحالات… نعم يجعل منك “شوهة” فوق سطح مركب و لكنه يحميك و يضمك من هذه الوضعية المريرة القاهرة… و من عزلة ألف عام… و لتذهب أنفتي و عزة نفسي للجحيم… الشوهة غير لي من لوعة الاجتثاث في وحدة قاتلة… ينظر إلي الرجل مشفقا… و لكنه المسكين لا يجد أي كلمات لمواساتي… فيطلب مني بعض البيسيتاس لشراء مشروب ما… و في محاولة انتحارية، لا أتوان بمده بكل نقودي … و أنا أجفف ما تبقى من دموعي و قد استنفذت الكثير منه في ذلك اليوم… حمدت الله أن بعث لي رفيقا… و ليكن “شلاهبيا” أو مجرما أو “الزاندا”…لا يهم… كل ما أريد… هو رفقة تخرجني من هذا اليوم الكئيب… ينظر إلي صديقي الجديد بشفقة الام… و يقول لا تحزن… سأكون سندك خلال الرحلة… فتوسمت خيرا و أضواء الجزيرة الخضراء تتراءى من بعيد مع بداية ليل طويل… و ستة ثلاثون ساعة… بل أربعة و ثمانون ساعة في قطارات إسبانيا و فرنسا تنتظرني… و ذلك مشهد أخر من رحلة الاجتثاث…