Deprecated: Automatic conversion of false to array is deprecated in /homepages/4/d885985160/htdocs/ksar.es/wp-content/themes/amnews/includes/fonts.php on line 616

يوم من البكاء في بداية رحلتي مع الاجتثاث…

29 يوليو 2022

د : عز الدين ابراهيمي

يوم من البكاء في بداية رحلتي مع الاجتثاث…
و أنا أحدق في معالم هذه الصورة و التي تعود لأكثر من ثلاثين سنة، وجدتني أكاد أجهش بالبكاء… فرغم الابتسامة، ذكرتني هذه الصورة بالشاب اليافع عزالدين المسكين و ذلك اليوم المشهود كأول يوم لرحلة الغربة و لسنوات طوال… وجدتني أستعد لمغادرة بيتنا متوجها للديار الفرنسية… أتمالك نفسي حتى لا أجهش بالبكاء أمام أمي و إخوتي و جدتي… أكابر و أتكابر و أتكبر على العويل الذي يستهويني في تلك اللحظة… و لكني أتخاذل في أخر لحظة و أصدع بأنين الفراق… إلى اليوم… لا أستطيع أن أصف ذلك الصوت الذي مازال يمزق طبلة أذني… و هكذا يتحول رحيل الابن النجيب لمتابعة دراسته إلى مأتم عائلي… جو يسوده النحيب و كلمات مطحونة بالدموع… أتمالك نفسي قليلا و أترك أبي يجتثني إلى داخل السيارة المتوجهة إلى ميناء طنجة… طافت في مخيلتي فكرة المقاومة… و لكن هل يمكننا أن نقاوم قدرنا و مصيرنا… فأستسلم للاجتثاث و لا ألتفت خلفي حتى لا أتخاذل مرة أخرى… أستجمع كل قواي… و لي في أبي الذي يقتادني إلى طنجة سند إلى حين… ألقي نظرة وداع على مولاي علي بوغالب و الجبانية… علني أدمغهما في مخيلتي… و الغريب و أنا أمر بمصلى العيد… وجدتني أتذكر كل هزائم حسنية مولاي علي بوغالب على أرض هذا الملعب… نعم… إنه يوم الاجتثاث… و لا مكان للانتصارات فيه… و لا أستطيع تذكر ولو انتصار واحد… فأنكسر مرة أخرى…
و أنا أعبر قنطرة اللوكوس على ضفة العرائش… كدت أنتفض على والدي و أطالبه بأخذ قسط من الراحة حتى أستمتع بشاطئ بيليكروسا و الذي تراءى لي أجمل من نيس و موناكو و الفرنش ريفيرا التي أتوجه إليها… نعم فكل شيء نسبي في تلك اللحظة… و لكني أتمالك نفسي حتى لا أفقد أخر شذرات العزة بالنفس و التي سأحتاجها حتما و نحن نصل إلى ميناء طنجة… و حتما في لحظة الحسم هاته… أو مشهد الفينالي… و مرة أخرى وكأن هذا اليوم قدر له أن يكون قاسيا منذ طلوع شمسه الحارقة… هاهو أبي يمدني بممتلكاتي و بحوائجي… و وجدتني و رغم غيبوبة اللحظة… أسأل سؤالا وجوديا… أهذا كل “أنا” و هذه كينونتي… محفظة ملئى بأوراق و دروس فارغة من أي معنى لحياتي… و صاكادو فيه جوج من الحاجة… و دراهم قلة … و تأشيرة على جواز سفر… عزالدين، كل هذه السنين بالمغرب يختزل في هاته الأشياء… هزلت… نعم و هزلت الأنا في… فتسلحت مرة أخرى ببكائي و أطلقت له العنان و أنا أعانق أبي… و شعور بداخلي يدفعني أن أستعطفه ليتركني في كنفه… و لكنني تذكرت جدتي و هي تنصحني مودعة… “كن راجل”… واخا الحاجة… متكون غير على خاطرك… حتى أنت و بمؤامرة مع كل العائلة، ترغمونني على صعود سلاليم الباخرة… أستسلم و أقبل أن أجتث… و أجلس في أول مقعد أجده… فجأة وجدت نفسي في مئة عام من العزلة… و أمني نفسي بمصير موسم الهجرة إلى الشمال… و عمدا صرت لا أريد أن أعي بأي شيء من حولي و أنا أتمعن، غير مصدق، أن الباخرة تغادر الميناء… و روحي تنتزع و تجتث من نفسي… فأعود إلى أمان ذهولي و أغيب نفسي في “روعة” لوعة الفراق…
و أنا أستمتع بعبثية غيبوبتي المفبركة… أسمع صوتا من بعيد قريب لشخص يطلب الجلوس بجانبي… لا أكترث له و لا لطلبه… لا أريد أن يخرجني أحد من غيبوبتي لأني لا أحب أن أعود إلى الحياة… و لكنه يسترسل في حديثه من طرف واحد فيسألني… بل ينحرني بسؤاله… “هل أنت مسافر لوحدك”… لا.لا. لا… لا، أرجوك إلا هذا السؤال… يا الله، لماذا يمعن الجميع و في مؤامرة كونية باجتثاثي و بقساوة… فيعيدني هذا السؤال فور استيعابه إلى حالة من البكاء الهستيري… فكم هو جميل ملجأ البكاء في مثل هذه الحالات… نعم يجعل منك “شوهة” فوق سطح مركب و لكنه يحميك و يضمك من هذه الوضعية المريرة القاهرة… و من عزلة ألف عام… و لتذهب أنفتي و عزة نفسي للجحيم… الشوهة غير لي من لوعة الاجتثاث في وحدة قاتلة… ينظر إلي الرجل مشفقا… و لكنه المسكين لا يجد أي كلمات لمواساتي… فيطلب مني بعض البيسيتاس لشراء مشروب ما… و في محاولة انتحارية، لا أتوان بمده بكل نقودي … و أنا أجفف ما تبقى من دموعي و قد استنفذت الكثير منه في ذلك اليوم… حمدت الله أن بعث لي رفيقا… و ليكن “شلاهبيا” أو مجرما أو “الزاندا”…لا يهم… كل ما أريد… هو رفقة تخرجني من هذا اليوم الكئيب… ينظر إلي صديقي الجديد بشفقة الام… و يقول لا تحزن… سأكون سندك خلال الرحلة… فتوسمت خيرا و أضواء الجزيرة الخضراء تتراءى من بعيد مع بداية ليل طويل… و ستة ثلاثون ساعة… بل أربعة و ثمانون ساعة في قطارات إسبانيا و فرنسا تنتظرني… و ذلك مشهد أخر من رحلة الاجتثاث…

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading