ذ : عبد الرزاق الجباري :
ـــــــــــــــ
يستعمل خاصةُ العارفين من أهل الحقائقِ اصطلاحَ “السُّكر” في معجم لسانهم التزكوي الوجداني، وذلك للتعبير، مجازا، عن حالة غير مألوفة تقوم في نفس “الواصل”، وهي: الغياب عن المحسوس والمعقول، والفناء في حضرة واجب الوجود.
وقد عبرت عن ذلك العارفةُ رابعة العدوية بقولها:
فإذا نظرتُ فلا أرى إلا لَـهُ = وإذا حضرت فلا أُرى إلا معه.
ولا تتحقق هذه الحالة إلا باحتساء “الشراب” المعبر عنه لديهم بـ “الخمرة” الإلهية أو “المُدام” أو “القهوة” أو “الكأس”، لقول العارفة عائشة الباعونية عن محبوبها:
وقال اشرب مُدامي = بفيض فضلي ومَني.
وقد همس بهذا التعبير الإمام الششتري، بقوله:
فأدر كأس من أُحبُّ وأهوى = فهوى من أُحب عـين صلاح
لو سقاها لميت عـاد حـيا = فهي راحي وراحة الأرواح.
أو كما قال في قصيدة أخرى:
قُـم فـاجـتـنِ قهْوةَ المعاني = مـن صـفـوةِ الكـاسِ إِذ جَلاهُ
واسـمـعْ إِذا غـنَّت المثانـي = تـقـولُ يـا هُـو لبَيَّك يا هُـــــــوَ.
والشراب عندهم هو النور الساطع عن جمال الإله المحبوب المورث لصفاء باطن المتلقي، وقد عبر عن هذه الحقيقة سلطان العاشقين ابن الفارض بقوله:
يقولون لي صِفها فأنت بوصفها = خبيرٌ، أجَلْ عندي بأوصافها علم
صفاءٌ ولا ماء، ولطفٌ ولا هـواً = ونورٌ ولا نار، وروح ولا جسم
ولا مندوحة لبلوغ هذه الحالة، من مفتاح “الوصول” الذي هو ملازمة “الذكر” والاستغراق فيه. وهو ما عبر عنه القطب أبو مدين الغوث، بقوله:
فيا حاديا العشاق قم واحْدُ قائما = وزمزم لنا باسم الحبيب وروحـنا.
وتلفظ قبله العارف ابن الفارض، بذات التعبير قائلا:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة = سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم.
ولعل مما تتمظهر فيه حالة “السكر” هذه، هو ما عبر عنه القطب سيدي محمد بن الصديق بقوله:
ومالت منا الأطراف شوقا إلى اللقا = ففاضت دموع العين والقلب في بشرى.
أو كما قال الإمام العارف سيدي محمد الحراق:
وكسَّرنا الكؤوس بها افتتانا = وهمنا في المدير بـــــلا مـدارا.
أو كما قال العارف ابن الفارض:
وفي سَكرةٍ منها ولو عُمرَ ساعة = ترى الدهر عبدا طائعا ولك الـحكم
فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحيا = ومن لم يمت سُكرا بها فاته الحزم
ولا ريب فيمن لم يتذوق هذه المعاني، أن يبادر إلى إنكارها والتشنيع على أصحابها. لذلك، لم يكن هناك بد من الرد عليه ولو بالإشارة والتلميح. وممن تولى ذلك سيدي أبو مدين الغوث، بقوله:
وقل للذي ينهى عن الوَجد أهله = إذا لم تذق معنى شراب الهوى دعنا
إذا اهتزت الأرواح شوقا إلى اللقا = نعم ترقص الأشباح يا جاهل المعنـى
أما تنظر الطير المقفّص يا فـتى = إذا ذكر الأوطان حنّ إلى المعنى
يفرج بالـتـغــريـد ما بفـوائده = فتضطرب الأعضاء في الحس والمعنى
كذلك أرواح المـحبين يا فتى = تهزها الأشواق للـعـالـم الأسـنـى
أنلزمها بالصـبـر وهـي مـشـوقـة = وهل يستطيع الصبر من شاهد المعنى
إلى أن قال:
فلا تلم السكران في حال سكره = فقد رفع التكليف في سكرنا عـــنـــا.
أو كما قال العارف الششتري:
يا عـاذِلي خـلِّنـي وشُـرْبـي = فـلسْـتَ تـدري الشـراب ما هُو.
ــــــــــــــ