تعدها : أمينة بنونة :
• وأنا طفل كنت شديد الهوس بقراءة مقاسات أحذية أصدقائي وزملائي وجيراني وأفراد عائلتي وزوارنا الذين يخلعون أحذيتهم عند باب غرفة المعيشة. كنت كالمدمن إذا حن إلى جرعته من المخدر. لا أهدأ إلا إذا عرفت مقاس أحذيتهم. كانت تفتنني تلك الدائرة التي يتوسطها الرقمان. شكل صغر قدمي مشكلا بالنسبة لي. قدماي صغيرتان، وكنت أجد صعوبة كلما أردت أن أشتري حذاء جديدا. مقاسات الأحذية المعروضة دائما أكبر من مقاس حذائي. أكتفي بشراء نوع من الأحذية غير الذي يروق لي فقط لأن المقاس أكبر برقم واحد. مرات عديدة كان أبي يقول لي اقتن حذاء أكبر برقم. ستكبر قدماك خلال السنة، والحذاء لا يمكن أن يتهرآ في سنة الواحدة. لكن أحذيتي كانت لا ” تعيش ” أكثر من ستة أشهر لأني كنت أقذف أي شيء أجده في طريقي: كرات. أحجار. قوارير بلاستيكية. قطع خشب. قشات.. علب كرتونية.. ثم يبدأ البحث عن حذاء جديد بمقاس اقرب برقم..
• في مراهقتي الأولى، وحتى وأنأ ألج سن الشباب، ظل منتصف شهر ( ماي ) مرتبطا عندي بصفة خاصة بمذاق الحموضة. كان الصداع الحاد لا يخلف وعده معي كلما حل هذا الشهر. كان يبقيني طريح الفراش يوما كاملا. لم أكن أحب أن أعالجه بالأقراص الفائرة. لا أتذكر أني تناولتها لهذا الغرض. ربما تناولتها، ولم تفلح في صد جحافله. لذلك عدلت عنها. ربما. لست متأكدا. نسيت.. كانت أمي ترابط عند رأسي، وتسألني كل حين إلى أين وصل الصداع الذي كان عند اشتداده يسلمني إلى نوم متقطع أخرج منه منهوكا، وأحس بإشراقة ذهنية، كامرأة وضعت للتو مولودها.. كان مصدر الحموضة الخل الذي كانت أمي تمسد به جبهتي. كانت تقعر راحة يدها اليسر، وتصب فيها قطرات من الخل، ثم تغمس إبهامها ووسطاها في بحيرة الخل الصغيرة تلك. تفرك جانبي جبهتي بإصبعيها سالفا الذكر، واضعة الإبهام في الركن الأيمن لجبهتي والوسطى في الركن الأيسر منها، ثم تمسد المسافة الفاصلة بين الجانبين إلى أن يلتقي الأصبعان سنتيمترا فوق نقطة التقاء حاجبي.. تمسد جبهتي دقائق حد إيلامي وحد احمرار وسطها. وهي تمسد كان الألم يتلاشى تدريجيا. كانت جبهتي تتشرب بالخل، وكانت رائحته نفاذة، بحيث كانت تبتلع كل روائح المكان والجسد لتحتكر جيوبي الأنفية. كنت أشعر بأن حواسي الخمسة توحدت في أنفي الذي أصبح كصحن عملاق يلتقط موجات الحموضة أينما كانت..
• كانت أمي تشمر عن ذراعي الصغيرة أو تشتم ملابسي. كانت تفعل ذلك، خلسة، حتى لا أحدس شيئا. لم أكن بعد اكتشفت لمَ كل تلك الإجراءات. فيما بعد، وعندما مُنحتُ جرعات زائدة من الحرية عرفت أن غاية ذلك التأكد من أني لم أكن أسبح في نهر المدينة الخطير. لأنه بعد أن نكون سبحنا فيه تغطي طبقة خفيفة من التراب جلودنا، وإذا كشط أحد بأظافره أذرعنا يتطاير الغبار الأسمر الفاتح، وينفضح خبر ذهابنا إلى النهر. أما اشتمام ملابسي فكان الهدف منه التأكد من أني لم أكن في إحدى دور السينما. كانت المناسبات التي كان مسموحا لنا بدخول دور السينما هي الأعياد الدينية والوطنية، وأيضا عندما تأتي العائلة من ( أوروبا ). كان ما يشفع لنا أننا كنا نرافق أقرباءنا – الذين ارتووا، هناك، من الحرية بنصيب مهم- الذين كانوا يجهلون الأثمنة، ولا يتكلمون العربية، وكذلك لحمايتهم من تحرش وبطش أطفال الحي الذين يسكنون قرب السينما. كان دخول السينما يجعل منا مرمدة للسجائر الرخيصة، خصوصا في المقاعد الأمامية المسماة ( خِنِينَارْ ) تحت الشاشة مباشرة. هذا إذا لم يسقط عليك عقب سيجارة طائشة، ويحرق رقبتك أو قميصك أو إذا لم تجلس أخيرا على ( مصيبة )، بعد أن تكون تحسست طريقك في الظلام أو يتعمد أحد عرقلتك عندما تدخل القاعة متأخرا بدقائق، ومتحسسا في الظلمة طريقك..
كنا مضطرين إلى متابعة الفيلم، وكأنه يُعرض في السماء، وليس على شاشة على مستوى نظرنا. كنا نرتادها لأنها أرخص وتشبهنا ونشبهها..