الطفلة التي كنتها ” سلسلة رمضانية” تعدها الإعلامية أمينة بنونة.
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتابا وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية
****************
1 ) استهلال
تظل ذكريات طفولتي الاولى مشوشة متقطعة ومع ذلك أحاول لم شعتها وفوضاها ، ولكن الذي أذكره بوضوح من صور هذه المرحلة الهامة من حياة الإنسان ، هي المرحلة التي بدأت أعي وأميز فيها ذاتي الاجتماعية من خلال إقبال أفراد أسرتي علي وباقي ساكنة ” الرياض ” الذي ولدت فيه ، هاهي الذكريات تتقد ناصعة متلاحقة وصافية لمدينة القصر الكبير التي لا اريد التبرؤ من تاريخها وانتسابي الى ملامحها المغرقة في القدم الحضاري والمحتاجة اليوم الى تجميل جراح الزمن الذي ترك ندوبا على وجهها الجميل ،والشعور الدفين الموروث داخل إنسانها
2 ) الرياض مسقط الرأس والحنين الأبدي
ذلك المكان الذي لا زال يسكنني ،مسقط الرأس والحنين الأبدي ،ولدت بعد سنوات قليلة من وفاة جدي المرحوم محمد الملالي الرميقي باشا مدينة القصر الكبير ومؤسس الرياض الذي اتخذه سكنا ومقرا لتسيير شؤون المدينة وفض نزاعات أهلها ،نشأت على حكايات طرية تروى عن جدي كنت اشعر ان وجوده وعبقه لا يزال بيننا ،الشعور الذي شاركني فيه من عايشه ونحن الذين ولدوا بعد وفاته
كباقي الرياضات المغربية مغلق على الخارج لا نوافذ له ، مشرع على الداخل ،من يدخله أول مرة يشعر انه قد سافر في الزمان وانه يدخل احد القصور الاندلسية او احدى الرصافات بالشام ، كنا نكتفي باللعب في حديقته وجنباته او فرض علينا ذلك ، وانتقلت العاب الخارج الى داخله ،لعبة الحبل و”شريطة ” في جنباته كانت تتحول ألعابنا الى محاولة تقليد الكبار ومشاهير الطرب ،كنت اتقدم الجوقة التي نشكلها واسند للباقي دور الكورال، وكما سكن التصوف روح ساكني القصر الكبير سكنت في الموسيقى الروحية روحي الصغيرة مما حذا بأهلي الدفع بي لدراسة الموسيقى بالمعهد الموسيقي ،بالموازاة مع ذلك ارسلتني والدتي رحمها الله لاتعلم الطرز عند خياطة إسبانية “مارينا ” الا ان الطرز لم يستهويني لان الموسيقى كانت تشدني اليها .
كانت ساكنة الرياض رغم تعدادها تسود فيما بينها قيم المحبة بالإضافة الى افراد الاسرة عاش معنا اناس ورثنا وجودهم عن جدي عاشوا معززين مكرمين ” دادة زهرة” ” با سلام” ” دادة سعيدة ”
“الرياض “المكان الذي استقبل عبر تاريخه العديد من الشخصيات الوطنية والاجنبية قبل الاستقلال كمولاي الحسن بن المهدي الخليفة السلطاني لمنطقة الشمأل الذي زاره ما مرة ، والمقيمون العامون الإسبان وزيارة وزير الثقافة المصري الباقوري صحبة اعلاميين منهم محمود سعيد من اذاعة صوت القاهرة ،حيث القت اختي امينة كلمة في حضوره، اعجب بها وتمت اذاعتها بإذاعة صوت القاهرة ،وبعد الاستقلال ، نزل به المرحوم محمد الخامس في زيارته الأولى لمدينة القصر الكبير بعد استقلال المغرب وتوحيد شطريه منطقة الحماية الفرنسية ومنطقة الحماية الاسبانية صاحبه صاحبه الأميران المرحومان الحسن الثاني ومولاي عبد الله ، وزيارة الامين العام للجامعة العربية عبد الخالق حسونة والشاعر السوري نزار قباني لما استضافته مدينة القصر الكبير ستينيات القرن الماضي والعديد من الشخصيات الوطنية والدولية التي كانت تزور المدينة
3 ) وجه البشير
مع وجه أخي البشير رحمه الله كان وجه الله يشرق على حياتي، لأنه ملأ الفراغ النفسي الذي عانيته بعد فقدان أبي وأنا الطفلة التي كانت تبحث عن أب آخر، فعاطفة حبي له تكونت من تجمع عدة انفعالات طفولية سعيدة كان هو سببها وباعثها ،وجدت فيه الاب الذي اختفى عني ،كان تعامله معي يعطيني انطباعا انه معني بإسعادي وإشاعة الفرح في قلبي ،لا سيما حين كان يصحبني معه بسيارته الى ضيعة الاسرة “بكارسيا ” طريق العرائش ، كان يسمح لي بالانطلاق بينما ينصرف هو لتفقد أحوال الضيعة ،كنت أمضي إلى الأشجار وأقفز وأتطلع حولي باحثة عن زهرات البابونج وشقائق النعمان وألملم منها باقات ،أو أزور حظيرة الخيول، وبين حين وآخر، كان البشير يوصيني بألا اوغل بعيدا ، عنه ،كان فرحي بتلك المغامرات الصغيرة يتميز بخلوه من الرقابة اللصيقة في الرياض التي كانت تنغص أفراحي الصغيرة ،مع البشير كنت أشعر بالتحرر من كل المنغصات ، رحمك الله يا ينبوع الحب والحنان.
4) الموسيقى إحساس حقيقي بعظمة الله
لم يأتي ولعي بالموسيقى وألوانها من فراغ ،نشأت على إيقاع الإنشاد الديني للشعر الصوفي الذي لازلت أحفظ الكثير منه عن ظهر قلب كإشعار ابن الفارض والبرعي والحراق وغيرها من القصائد الصوفية الشهيرة كالحلبيات والبغداديات ، تلك الأغاني الدينية ومؤثراتها التي عملت على تكثيف مشاعري الغائمة المبهمة ،كانت تفوتني إدراك معانيها إدراكا عقليا ، لكن أحاسيسي تعب من الجو العاطفي الروحي للأصوات والكلمات النابعة من إحساس حقيقي بعظمة الله وجلاله، ومكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ،يأتي النغم الموسيقي مندمجا كليا مع هذا الشعور الجميل ،فترتوي تلك المشاعر وتزداد كثافة وزخما وتوهجا ولم يكن من سبيل للتخلص منه ، تشكل هذا عندما كان يحتضن “الرياض ” حلقات السماع والمديح في مناسبات دينية شتى فالأمداح النبوية تتم مصحوبة بآلات موسيقية كان يعزف عليها فنانون مهرة يتقدمهم المرحوم البشير الروسي صحبة احمد العرائشي علال نص الليل محمد مومن عبد القادر الركراكي بوغالب التمسماني الهادي ميلود حوسى وغيرهم مما كان يضفي على الاحتفالات بهاء خاصا
كذلك كان” الرياض ” ملاذا لفقراء ومريدي الزاوية التيجانية منذ عهد جدي حيث خصص لهم مكانا سمي “بقبة الفقراء ” كنت أحضر ليلة المولد النبوي بالزاوية التيجانية في الجناح المخصص للنساء ،حيث تصل مسامعنا وصلات السماع والمديح التي يتعالى ايقاعها كلما تقدم الليل لا تقطعها إلا مواويل شجية ،إلى أن تبلغ ذروتها والجميع يقف في إجلال وخشوع وتبثل مرددين :
وقوف على الاقدام في جاه سيد …. تعظمه الأملاك والجن والإنس
تنعم بذكرى الهاشمي محمد …. ففي ذكره العيش المهنأ والأنس
أيا شاديا يشدو بأفضال محمد ….. لقد لذت الأسماع وانتعش الحس
فكرر رعاك الله ذكر محمد ….. سماعك طب ليس يعقبه نكس
إن بيئة القصر الكبير التي كانت موسيقاها مطبوعة بمسحة دينية لأنها مدينة الزوايا والزهاد والمتصوفين فلا غرابة ان أكون ثمرة تلك البيئة