لوحة

11 أبريل 2022

_ عبد الواحد الزفري:

مهداة لصديقي: الفنان يوسف سعدون.
وتعزية لصديقي: الفنان حسن البراق في وفاة أخيه الفنان محمد البراق.
أنا أمقت أسواق الرفاهية الضخمة مبانيها، ولا تغريني إطلاقا سلعها المرصوصة بعناية مفرطة فوق الرفوف المتناسخة يمبن ويسار ممراتها المتفرعة، ولا يبهرني إطلاقا لمعان ثرياتها المعلقة في السقف المنقوش بماء الذهب، ولا بلاطها الرخامي اللامع المستفز الذي يتواطأ مع الزمان فيفشي عورة حذائي المثقوب لعيان المتسوقين الذين يدفعون أو يجرون وراءهم عربات ملآ بقمصان وأحذية هي الأخرى تطل ساخرة وتتعالى ضحكاتها نكاية في حذائي الميئوس من ترقيعه.
حتى إذا ما أنا تورطت أو أكرهت على ولوجها لا يشغلني شاغل سوى البحث عن أقرب بوابة الخروج في أقرب وقت ممكن؛ حفاظا على ميزانيتي من التبذير إن أنا تشجعت واقتنيت علبة من المصبرات التي لن تسمن جسدا أنهكه الدهر وعافه القبر .
لكني بالمقابل لكرهي لتلك الأسواق أفتخر أني من عشاق التجوال في أسواق الخردوات المقامة في أمكنة لا سقف لها ولا جدران؛ لازالت كما خلقها ربها عليه، والملقاة سلعها بعشوائية، ترسم لوحات تشكيلية رائعة الألوان والأشكال على أقمشة فوق أرضية غير مبلطة.
لست أدري متى نبتت في دواخلي شتيلة تلك الغواية العجيبة التي تمارسها علي هذه الأسواق وإن كنت في جل الأحيان لا أقتني منها شيئا يذكر، ما يهمني دائما هو التجوال جيئة وذهابا يمينا ويسارا بين سكان العوالم السفلية أصحاب الأيادي المخشوشنة، الذين يقلبون ظهرا لبطن سلعا أتت من الخارج بعدما فاضت عن حاجة أصحاب نعم وسعة في الرزق، وكذا عن المحتاجين داخل الوطن الذين أرغمهم جبروت الدهر على بيع حوائجهم لتسديد قروض ترتبت عن العوز.
في سوق المستعملات لا تراعى نظافة الأشياء المعروضة للبيع؛ مقلات تراكم علىها الدسم، حذاء لازال عالقا به الوحل.
ولا يهتم بعمرها الافتراضي بل كلما تقادمت قد تدخل في عالم التحف النادرة،كل ما يهم هو أن تكون أجساما قابلة للرؤية بالعين المجردة قد تقوم بالدور المنوط بها؛ إن هي نظفت وأصلحت فيزيد ربها الجديد لعمرها المفترض سنوات وسنوات مستدركة:
دمية فقدت رجلها في ظروف غامضة قد تصادف من يحتفظ برجل فقدت هي الأخرى دميتها في ظروفا مماثلة، طقم أسنان مات صاحبه، أو طقم صحون تكسر سادسهم سهوا من صاحبته أثناء تنظيفه أو قصدا من ملك البيت بعد غضبة شرسة، أسمال قد يحتاجها مياوم بناء كان أم صباغا، سجاد، براد، تلفاز قديم أو سلعة صينية قصيرة العمر…
سألت الشيخ عن ثمن اللوحة التي استهوتني كثيرا، قرقرت بطنه قبل أن يجيبني:
_ ما يسد الرمق.
ابتسمت في وجهه، ناولته ما يكفيه جوع يومه، كانت اللوحة مجهول رسامها لأنها غير موقعة، أو قد يكون الشيخ نفسه صاحبها غير أنه لم يشأ أن يوقعها باسمه، وإن كانت اللوحة مرسومة بدقة لا متناهية ؛ امرأة أجمل من ” الموناليزا ” بل ومن” مارلين مونرو ” نفسها بالرغم من كونها عابسة الوجه؛ ترتدي ثوبا أسود تنظر نحو رسامها؛ تمسك باليسرى حمامة ترقد على عش به جمر أحمر قان، وباليمنى ريشة وألوان ترسم على لوحة امرأة بنفس مواصفاتها التي بدورها تقوم بنفس الرسم؛ سلسلة متناسخة من نفس اللوحة في لوحة واحدة.
نظفتها من كل الأتربة العالقة بها، طليتها بعناية فائقة بسائل أضفى عليها ما تستحقه من لمعان، ثبتها على الجدار المقابل لسريري، وصرت أنظر إليها كل ليلة إلى أن يسحب النوم جفوني نحو عوالم الغياب.
المثير للغرابة أنني وبعد طول مدة، صرت كل مرة أجدها معلقة في مكان على جدار من جدران البيت عدا الذي خصصته لها، عزوت ذلك لسهو مني أو نسيان بل صرت أشك بأن أعراض ” الزهايمر” بدأت بمناوشتي.
استيقظت في وقت متأخر من ليلة باردة مبرقة مرعدة، اكتشفت أن اللوحة في عز الظلام كانت بادية للعيان بكل تفاصيلها الدقيقة، انتفضت مفزوعا من الهول لكن المرأة ابتسمت في وجهي وقالت:
_ لا تخشى شيئا.
قرأت المعوذتين وآية الكرسي أو أظن أني قد فعلت ذلك، هممت بالفرار خارج الغرفة بنية الهرب بعيدا عن البيت والمدينة ولم لا المجرة؟ إن أمكنني ذلك، شلت حركتي، وفقدت السيطرة على جسدي، جف ريقي، وفي سري رددت الشهادة عدة مرات.
بصوت ناعم توسلت إلي قائلة:
_ أريدك فقط أن توقع اللوحة، كي تصبح لها هوية.
لما اكتشفت أنه صار بإمكاني النطق، قاطعتها مستغربا:
_ ما أنا بصاحبها ، ولا كنت يوما من الرسامين.
قهقهت حتى سقطت من بين أناملها الريشة وانتفضت الحمامة من على كفها الأيسر وسقطت جمرة من تحت الحمامة كادت تحرق السجاد الذي اقتنيته من سوق الخردة، لولا أن الحمامة لحقت بها وأمسكتها بمنقارها وأعادتها لمكانها الأصلي، انحنت المرأة، التقطت ريشتها بيدها اليمنى، ثم عادت لوضعيتها السابقة، بصوت رخيم وحزين في ذات الوقت قالت:
_ لما أتممت رسم لوحتي الأولى والأخيرة، هممت بتوقيعها لكن ملك الموت سبقني ووقع شهادة وفاتي، صعدت روحي نحو اللوحة وعلقت بها في انتظار أن يوقعها شخص آخر، فتتحرر روحي وأنعم بالراحة الأبدية.
خرجت من بروازها المرأة، تمددت بجانبي وأرخت شعرها على صدري، بعدما عانقتني قبلتني، مدت نحوي ريشتها بعدما غمرتها بكحل عينيها، كبساط الريح حلقت نحوي اللوحة ، ما فكرت في عاقبة الأمر، أمسكت الريشة دون تردد لما هممت بتوقيعها أصبت برعشة لذيذة، غيبتني العدم عن الوجود وأحسست وكأن روحي غادرت جسدي وعلقت باللوحة بدل روح تلك الفاتنة غاية الصبح.
وضعت كل مدخراتي في جيبي وأقفلت زره، زرت طبيبا نفسانيا. بعد تعرفه على وضعيتي الاجتماعية، قصصت عليه حكايتي مع اللوحة.
ابتسم في وجهي كي يطمئنني على حالتي النفسية مد لي وصفة الدواء وأردف قائلا:
– هلوسات بصرية وأخرى سمعية لا وجود لها في الواقع؛ تتهيأ لك بسبب حالة الوحدة التي تعيشها.
قلت له:
لكن اللوحة أصبحت تحمل توقيعي. –
ردد بعدما قهقه:
_ ترددات الهلوسات، ليس إلا…

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading