الطفل الذي كنته الطفولة هذا القطار البعيد/ القريب ذ. عبد العزيز أمزيان

9 أبريل 2022

الطفل الذي كنته ” سلسلة رمضانية تعدها الإعلامية أمينة بنونة .

ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتاب وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية

******حلقات أعدتها : امينة  بنونة
الطفولة هذا القطار البعيد/ القريب، الذي أسمع هديره، وهو ينطلق في سكة ذاكرتي من أول عهدي بالحياة، إلى آخر هذا العهد الماثل أمامي الآن، وأنا راكب، لا أعرف أين سيذهب بي ؟ ولا متى سيتوقف؟
أفتح عيني، ألتفت، فأرى ذلك الطفل، الذي كنته، بملامح غارقة في الحزن، وذهن شارد في عوالم الغيب، وأكوان الوجود، ورأس مطرق، ممسك عن الكلام، كأنه أضاع بوصلة حلمه، فتاه في الطريق، لا يلوي على شيء، أو كأن شرخا أصاب روحه، على حين غرة، فراح يستقصي هذا الأثر، الذي ما فتئ ينغص عليه الحياة، ويكدر عيشه.
لم يكن هذا الشرخ سوى هذا الإحساس المضني بقتامة الحياة، وحلكة الأيام التي تسير بطيئة، في كل شيء. الأفق ضيق، والمدار قليل الاتساع، محدود المنافذ، محصور المسالك.
يشعر الطفل أنه نقطة صغيرة عائمة كسمكة في الأكواريوم، أو كذرة متناثرة في محيط مغلق، يقع في مخلب الزمن، فيحبس أنفاسه، ويخنق الهواء في رئته.
يذكر الطفل مما مر به في القطار، أنه عثر على صديق طيب، خفيف الظل، طلق المحيا، حلو المعشر، يدرس معه في نفس الفصل، بالمستوى الأول بمدرسة سيدي بو أحمد الإبتدائية، ويقطن بنفس الحي، اسمه نجيب. يذكر الطفل أنه يطمئن إلى صحبته، ويأنس إلى الحديث معه، كان طفلا مختلفا عن الأطفال الذين عرفهم، كانت تقاسيم وجهه منبسطة، لا تجهم، ولا عبوس، ولا شحوب، ولا تعكر فيها، كان حالما وديعا كعصفور، وهادئا ساكنا كنهر، لا يعرف البغض، الذي غالبا ما يلمسه الطفل- بالفطرة- في نفوس أقرانه الآخرين.
تقوت الصداقة بين الطفل وصديقه، وازدادت المودة بينهما، لدرجة ، أضفت على الحياة نكهة خاصة، وخلعت على الوجود طعما رائقا.
ما أجمل أن يكون لك صديق تحبه، ويحبك، تعتبره توأم روحك، وسنا قلبك، يتحدث إليك، فترى نفسك تورق في مرايا الحلم، كهذا القطار الذي يسير، في ذاكرتك، كما في محيطك السديمي، ما إن تود أن تقبض على هذه المشاهد المارة أمامك، والمقلوبة -أبدا – في رأسك، حتى تغادرك ، وتنفلت من قبضة الرؤيا، ومن كف البصر، كأنها دائمة التبدل، ومستمرة التغيير على مدى السكة، ومدى العمر المتبقي من خريطة النبض، وجغرفيات المدار.
ليس يدري الطفل كم مرة، أعاد إلى ذاكرته طيف هذا الصديق، الذي طواه القطار، ولفته السكة بين مسافات السنين الطويلة؟ وكم وقف طويلا أمام لغز الحياة المحير؟
لماذا تناكفه الحياة ويوجعه القدر كل هذا الوجع ؟ لماذا يرهقه الوجود، وينهكه الزمن كل هذا الإنهاك؟ ترميه في أنفاق الأسى، وتطوح به طوائح الزمن، وتلقيه في المهالك والتيه والأهوال؟
يذكر الطفل أنه في لحظة يجد نفسه وحيدا، حزينا، كأن الصديق لم يكن له وجود، ولم يكن له حضور، كأنه تلاشى في الضباب، واضمحل في الحلم، وتفتت في الأثير، أو ربما كان صدى لذاته، أو لعله كان ظله في مقصورة القطار الذي ما يزال يركبه، أيكون هو هذا الهدير الذي يسمعه، وهو ينطلق في سكة ذاكرته؟ أيكون هو هذا الرماد، الذي يتراءى له من وقت لآخر في فورة الغضب والسخط والتمرد، حين يلم به خطب، أو حين يسحبه الحزن إلى أنفاقه الدامسة؟ أيكون هو هذا الجمر، الذي يتبدى له في مسير العمر، كشوكة في قلب دام، أو كصبار يطفر في أرض خلاء، لا نهاية له، لا في الحفر، ولا في الولادة، ولا في خطى الأقدام التائهة في معابر الأيام.
يدور الزمن، كما في البداية، يكون الضوء ويكون السنا، لكنهما سرعان ما يؤولان إلى السديم والضباب. هل حقا كان هذا الصديق توأم روح الطفل؟ هل حقا كانا يمشيان من حي اسكرينيا إلى مدرسة سيدي بو أحمد ذهابا وإيابا؟ هل حقا كانا يضحكان ضحكتهما المرحة، الصافية التي كانت تخرج من الأعماق، فتملأ عليهما الدنيا؟ وتسبغ على أيامهما النعمة والنضارة و الرونق؟
يذكر الطفل، وهو راكب في القطار، الذي لا يعرف إلى أين سيسير ؟ و لا متى سيتوقف به؟ يتذكر أنه سمع أن صديقه هاجر هو وأسرته إلى هولندا بدون رجعة، نزل عليه الخبر كالصاعقة، وشعر بوجع يعتصر قلبه، وأحس بهم ينهك روحه، ويسحق وجدانه أيما سحق.
ها هو ذا قطار الطفولة البعيد/ القريب، يسير، وها هو ذا يركبه، بكل الجراح التي في روحه، بكل التشظي الذي ما انفك يحفر في أيامه أخاديد السياط، ويخدش تجاعيد وجهه الطفولي في المنعطفات السريعة، وفي الممرات التي تبدو من بعيد غبشا، كأن الدنيا قمشته بين قبضة الحديد، وبين كف النار.
يركبه، هذه المرة، في صمت واجم، وسكون عابس، كأنه يغالب هدير القطار الذي في رأسه، كأنه يشاهد صعقاته التي رمته في بحور التيه والمفازة، والضيم والمهاوي.
أفتح عيني، ألتفت فأرى ذلك الطفل الذي كنته، فيهزني الحنين إلى تلك الأيام الخوالي، أغمض عيني قليلا، أغفو، أستعيد زمني الأول، أحاول أن أتذكر كل الوجوه التي رافقتني في الحياة، بعضهم يغيب في تخوم النسيان، البعض الآخر، يحضر بقوة، لكنه سرعان ما يتراءى لي- وأنا أركب القطار- كغبش في ذكرى بعيدة، أو يظهر كضوء خافت، يكاد لا يرى بين أطياف الغيوم الكثيفة في القلب، ذلك لأن القطار بعد بي عن “الطفل الذي كنته” الطفل الذي ظللت أرسم له آفاقا في الحلم، وأنحت له عوالم في الحياة.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading